هناك في تلك البقعة الصغيرة المحاصرة، حيث تفقد قوانين المنطق والتاريخ فاعليتها، يصنع أهل غزة مجدًا لا يمكن قياسه بأي معيار بشري. كيف يبقون هناك رغم هذا الخراب؟ كيف تعود أكثر من نصف مليون روح إلى أنقاض الشمال، رغم أن ما كان يومًا مدنًا وأحياءً لم يعد سوى كتل إسمنتية محطمة بفعل مئات آلاف الأطنان من الصواريخ؟

العالم كله شاهد الدمار، والخرائط تحولت إلى بقع سوداء، لكن شيئًا في تركيبة أهل غزة يجعلهم يرفضون الاستسلام. ليس لأن الخيارات أمامهم ضيقة، بل لأنهم يدركون، كما لم يدرك شعب آخر، أن الأرض لا تُترك، حتى لو لم يبقَ منها سوى أثر.

الاحتلال يعترف: غزة تُعيد إعمار نفسها بسرعة مذهلة

رغم شهور القصف الإسرائيلي الوحشي، الذي استهدف كل ما هو حي في غزة، جاءت الصدمة الكبرى من حيث لم يتوقع الاحتلال نفسه. الخبير الإسرائيلي إيال عوفر كشف في تقرير نشرته صحيفة معاريف أن حكومة حماس بدأت عملية إعادة تأهيل البنية التحتية للمياه بسرعة غير مسبوقة، كما تعمل على تطهير الطرق الرئيسية من الأنقاض لتسهيل عودة السكان. حتى الآن، عاد أكثر من نصف مليون فلسطيني إلى الشمال، رغم أن الاحتلال كان يراهن على تهجيرهم بشكل دائم.

هذا الاعتراف الإسرائيلي يكشف فشلًا استراتيجيًا كبيرًا، إذ كان الهدف من الحرب هو تحطيم قدرة الفلسطينيين على الحياة، وجعل عودتهم إلى ديارهم أمرًا مستحيلًا. لكن غزة، كما هو حالها دائمًا، قلبت الطاولة على الاحتلال، وحوّلت ركام البيوت المهدمة إلى جسر للعودة، بدلًا من أن يكون شاهدًا على نكبة جديدة.

الصمود.. حين تتضاءل التجارب البشرية أمام غزة

عبر التاريخ، قرأنا عن مدن سقطت أمام الاحتلال، عن شعوب هجرت بلادها بعد الحروب، عن حضارات انهارت تحت ضربات الطغاة، لكن في غزة كل هذه النماذج تنهار أمام تجربة لا مثيل لها. هنا، حيث كانت آلة الحرب الإسرائيلية تعتقد أنها تستطيع اجتثاث البشر كما تقتلع المباني، ثبت أن هناك قوة أكبر من الصواريخ، وأصلب من الدبابات، وأقوى من جيوش بأكملها، إنها إرادة البقاء.

عندما دخل جنود الاحتلال إلى غزة، ظنوا أن بضع ضربات عسكرية ستحطم إرادة السكان وتدفعهم للهروب الجماعي، لكن ما حدث كان العكس تمامًا. رحل المحتل خاسرًا أهدافه وشرفه، وبقي أهل غزة، يرفعون الحجارة من فوق أنقاض بيوتهم، ويصنعون منها طريقًا للعودة من جديد.

المحتل يتهاوى.. وغزة تبقى

في الجهة الأخرى، تبدو الصورة مختلفة تمامًا. جيش الاحتلال الذي حاول إبادة الحياة في غزة، بات يعاني انهيارات نفسية لم يشهدها من قبل. الجنود يموتون منتحرين، والآلاف يعانون من أمراض نفسية يصعب علاجها، بينما في غزة يحمل الناس جثث ذويهم على أكتافهم، ويمضون في طريقهم، مؤمنين أن الأرض ستعود، وأن النصر ليس مجرد احتمال، بل حتمية تاريخية.

لقد كانت معركة غير متكافئة بكل المقاييس العسكرية، لكن غزة لم تكن تقاتل بالأسلحة فقط، بل قاتلت بالكرامة، بالإيمان، بالعقيدة التي تقول إن الأرض لا تُترك، وأن الظلم لا يدوم، وأن الاحتلال مهما طال مصيره إلى زوال.

هذه ليست مجرد حرب، هذه مواجهة بين من يملك كل أدوات الدمار، لكنه فقد روحه، وبين من لا يملك شيئًا سوى إيمانه، لكنه استطاع أن يغير قواعد الصراع. وهذا هو الفارق الذي يجعل أهل غزة أعظم من مجرد ناجين.. إنهم صُناع التاريخ الحقيقيون.