بقلم: مبارك العبدلي
في الوقت الذي لا تزال فيه غزة تُدفن تحت الركام، ويُحاصر فيها كل ما ينبض بالحياة، لا تقتصر تغذية آلة الحرب الإسرائيلية على الدعم الأميركي العسكري، أو الصمت الغربي المتواطئ، بل تمتد إلى شبكات تجارية واقتصادية عربية، تقودها الإمارات، تتدفق من خلالها المليارات إلى خزائن الاحتلال، في صفقات تُبرم تحت غطاء “الاستثمار”، لكنها في الحقيقة تمويل مباشر للمجازر.
ولعلّ تجارة الألماس بين الإمارات وإسرائيل تُعدّ أوضح نموذج على هذا الشكل من التطبيع القاتل، الذي لا يكتفي بتبادل المصالح، بل يتحوّل إلى شريان مالي يغذّي آلة القتل في كل غارة على غزة، وكل طلقة في الضفة، وكل حجر يُسرق من الأرض الفلسطينية لبناء مستوطنة جديدة.
من البورصة إلى القصف: حين يصبح الألماس ذخيرة
لطالما كانت صناعة الألماس جزءاً حيوياً من الاقتصاد الإسرائيلي، ولدى تل أبيب واحدة من أكبر بورصات الألماس في العالم في مدينة رامات غان. هذا القطاع، وفق التقارير الإسرائيلية، يساهم بما يقارب مليار دولار سنويًا في ميزانية وزارة الدفاع الإسرائيلية.
بعد توقيع اتفاقية التطبيع مع الإمارات عام 2020، لم تكتف أبوظبي بفتح الأبواب الدبلوماسية لتل أبيب، بل أنشأت ممرًا اقتصاديًا خاصًا للألماس، أُلغي فيه الجمرك، وفُتحت فيه مكاتب بورصة دبي للألماس في إسرائيل والعكس، وتحولت التجارة إلى شحنات مباشرة يومية.
في عام 2022 فقط، بلغت قيمة التبادل في الألماس بين الطرفين 1.75 مليار دولار. وفي مارس 2024، بينما كانت غزة تُباد، استوردت إسرائيل من الإمارات ألماسًا بقيمة 57 مليون دولار في شهر واحد فقط، شكّل أكثر من نصف وارداتها من هذا المعدن في تلك الفترة.
تجارة غير بريئة.. تمويل للاستيطان والقتل
ما يغيب عن بال الكثيرين أن الألماس ليس فقط تجارة فاخرة لعلية القوم، بل هو مدخل استراتيجي لتمويل الاستيطان والعدوان. فعدد من كبار تجّار الألماس الإسرائيليين هم جنرالات سابقون، وضباط في الموساد، وممولو شركات السلاح.
▪️ من بينهم ليف ليفيف، أحد أباطرة الألماس، ومالك شركات تنشط في بناء المستوطنات، وسبق أن قاطعت اليونيسف وأوكسفام تبرعاته بسبب جرائم شركته.
▪️ كذلك بواز مولداوسكي، رئيس بورصة الألماس الإسرائيلية، هو ضابط سابق في سلاح الجو الإسرائيلي، وتفاخر بفتح مكتب في دبي عام 2022.
هل يُعقل أن تُبرم شراكات اقتصادية مع هؤلاء، وتُعامل تجارتهم باعتبارها “طبيعية”؟
من الحصار في غزة إلى الرفاه في رامات غان
في الوقت الذي يُمنع فيه دخول الدواء إلى غزة، ويُقصَف فيه كل ما يتحرك، وتُقطع فيه المياه والكهرباء والاتصالات، تصل شحنات الألماس الإماراتية إلى إسرائيل دون عائق، بل ويُعاد تصدير بعضها من دبي عبر “مراكز غير خاضعة للرقابة الدولية”، ما يجعل الإمارات بوابة مثالية لغسل الألماس القادم من أفريقيا، وتحويله إلى “ذخائر نقدية” لآلة الحرب.
إنه مشهد فاضح: أحجار تُلمع في المعارض بينما أجساد الفلسطينيين تتناثر تحت القصف. الألماس هنا ليس زينة، بل رمز للتواطؤ، وجزء من اقتصاد الحرب، يُستخرج من أعماق الأرض ليُدفن به شعب آخر.
بين التضامن الكلامي والتطبيع القاتل
الإمارات التي تدّعي دعم الفلسطينيين لفظيًا، لم تفرض أي شرط سياسي أو أخلاقي على اتفاقياتها الاقتصادية مع إسرائيل، لا وقفًا للاستيطان، ولا احترامًا للحقوق، ولا حتى تعليقًا لتدفق الألماس خلال الحرب.
هذه السياسة ليست مجرد تجاهل، بل انخراط كامل في إعادة تأهيل صورة الاحتلال، ومنحه منفذًا آمنًا للثروات، حتى في الوقت الذي يُقاطعه فيه العالم بسبب جرائمه في غزة.
حين يتلألأ الألماس في دبي، يكون الثمن غالبًا دمًا يسيل في غزة.
ليست المشكلة في الأرقام فحسب، بل في نموذج كامل من “التطبيع الاقتصادي غير المشروط” الذي يُجمل الاحتلال، ويمنحه المال، ويمنع سقوطه اقتصاديًا، وهو ما يُطيل أمد الحرب، ويزيد كلفة الدم الفلسطيني.
إن من يرسل الألماس إلى القاتل، وهو يعرف أنه سيُستعمل في تمويل بندقيته، لا يختلف كثيرًا عمن يضغط الزناد.
ولعل أبسط أشكال الكرامة الآن، هو فضح هذا التواطؤ، والمطالبة بمحاسبة من جعل من الإمارات جسرًا لتمويل الاحتلال الإسرائيلي وأداته العسكرية.
اضف تعليقا