أحمد فارس

 

أحدث النظام المصري الحالي بقيادة عبد الفتاح السيسي، شرخا جديدا في جدار التوتر المتزايد بينه وبين الشعب المصري خلال الأيام القليلة الماضية، بقرار زيادة أسعار تذاكر قطار الأنفاق “المترو”.

الزيادات التي تعتبر الأكبر على تذاكر المترو منذ إنشائه في عهد الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، جاءت متزامنة مع تأكيدات مستمرة من قبل مسؤولين في الحكومة على زيادة الأسعار في الموازنة الجديدة.

واتخذ السيسي وحكومته برئاسة شريف إسماعيل سلسلة قرارات وإجراءات اقتصادية “قاسية” -هذا باعتراف الرئيس الحالي نفسه-، بزعم “الإصلاح الاقتصادي”، ولكن في حقيقة الأمر هي خطوات لتنفيذ إملاءات قرض صندوق النقد الدولي.

هذه الإجراءات المستمرة زادت من مستوى الغضب الشعبي ضد السيسي وسط مؤيديه عقب الإطاحة بالرئيس المعزول محمد مرسي من سدة الحكم، بالشكل الذي يفرض تساؤلا منطقيا حول قدرة المصريين على احتمال مزيد من هذه الإجراءات خلال السنوات المقبلة، مع الأخذ في الاعتبار أن السيسي لم يبدأ ولايته الثانية بعد، فهل يثور المصريون ضد تلك السياسات أم يتحملون مرارة الضغوط الاقتصادية لـ 30 عاما مقبلة؟.

 

نار تحت الرماد

وبقدر ما تبدو الأجواء في مصر هادئة مع توالي الإجراءات الاقتصادية الصعبة على الشعب المصري، إلا أن ثمة نارا تحت الرماد، الذي يحاول النظام الحالي نثره لتصدير مسألة أساسية، وهي أن الشعب المصري يحتمل بل وسيحتمل هذه الإجراءات وما يستتبعها أيضا.

جزء من الصورة الخادعة التي يصدرها النظام الحالي، جاءت بالأساس على لسان الرئيس المصري، في أكثر من مناسبة عامة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، ما جاء على لسانه بمؤتمر الشمول المالي في مدينة شرم الشيخ، العام الماضي.

وقال السيسي: ” الإجراءات الاقتصادية التي عملتها مصر، الجندي المجهول الحقيقي فيها هو الشعب المصري، وتحملها ويتحملها بكل قوة وصبر”.

وأضاف في إطار محاولة امتصاص الغضب الشعبي ضده، مغازلا المصريين: “هذا الشعب يسجل في تاريخه وفي تاريخ الإنسانية كما سجل من 7 آلاف سنة حضارة عظيمة يسجل الآن تاريخ واقع هو مصمم على تغييره”.

كل محاولات النظام الحالي في إخفاء النار التي تتزايد تحت الرماد، باءت بالفشل عقب رفع أسعار تذاكر قطارات الأنفاق “المترو”، الخميس الماضي، إذ عبر المئات بل والآلاف عن رفضهم لقرار رفع الأسعار، في محطات المترو، وتعددت صور الاعتراضات بين الهتافات والشجار مع المسؤولين في المحطات المختلفة، بينما قرر قطاع ليس بالقليل استخدام المترو دون دفع التذاكر.

انتفاضة المترو أو ثورة المترو” تعبيرات أطلقها نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، لرصد حالة الغضب الشعبي ضد القرار الذي يمس قطاعات واسعة من الشعب المصري، والتي تصنف بأنها الأكثر فقرا في مصر.

ويبلغ عدد ركاب المترو يوميا بحسب وزير النقل هشام عرفات، بنحو 3 ملايين مواطن يوميا، بينهم طلاب وموظفون وعمال.

ولكن في حقيقة الأمر ورغم الغضب الواسع فإن الاعتراض على قرار رفع تذاكر المترو، لم يصل حتى إلى مرحلة انتفاضة كاملة، ولكنه رد فعل طبيعي على اقتطاع مزيد من الأموال من الرواتب المتدنية، إذ تتذيل مصر قائمة الدول العربية والإفريقية في متوسط الرواتب.

ولكن يمكن اعتبار الاحتجاج على رفع أسعار تذاكر المترو، خروج جزء من النار من تحت الرماد، خاصة مع الأخذ في الاعتبار الإحجام والعزوف الشديد عن المشاركة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي فاز فيها السيسي دون منافسة حقيقة.

وحاول السيسي ونظامه حشد كل الطاقات لإجبار المواطنين على المشاركة، في ظل عدم وجود رغبة حقيقية على ذلك، من خلال إجبار الموظفين على المشاركة، وبث شائعات حول دفع غرامة مالية واقتطاعها من رواتب الموظفين.

ويعد العزوف عن المشاركة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بمثابة إنذار شديد بارتفاع منسوب الغضب الشعبي، وانعدام أي شرعية للنظام الحالي، ويمكن اعتبار عدم المشاركة في الانتخابات الرئاسية “انتفاضة أو ثورة صامتة”.

 

تخوفات السيسي

لم يخف النظام المصري الحالي وجود تخوفات شديدة من أي احتجاجات شعبية أو حتى فئوية خلال السنوات الأربعة الماضية – هي فترة السيسي الأولى في الحكم-، وبالتأكيد ما قبلها.

السيسي يتحرك خلال الأعوام الأربعة الماضية منذ صعوده لسدة الحكم، ولم يغب عن باله حشود المصريين في ميادين مصر وشوارعها لإسقاط مبارك، هذا ظهر في عدة مرات عند حديثه عن ثورة 25 يناير، فيما لم يتطرق إلى أحداث 30 يونيو، على اعتبار أنها كانت جزءا من مخطط كبير لصالحه، وأشرف على مجمل الأوضاع قبلها إذ كان حينها وزيرا للدفاع.

وفي يناير الماضي، وخلال افتتاح حقل ظهر للغاز الطبيعي، تحدث السيسي بعبارات شديدة، مؤكدا أنه لن يسمح بتكرار أحداث الفوضى التي شهدتها مصر خلال السنوات الماضية، في إشارة إلى ثورة يناير.

وقال السيسي: “تحقيق الأمن والاستقرار خلال السنوات الماضية كان هو القوة الدافعة لتحقيق التقدم في مجالات عدة، وأهمها المجال الاقتصادي”.

ووجه حديثه لمن وصفهم بـ “غير الفاهمين” لمعنى كيان الدولة، من التحدث بعدم وعي في أمور تمس الأمن القومي المصري وتشكل تهديدا للاستقرار.

وتحدثت تقارير صحافية عن تسلم السيسي لتقارير من جهات سيادية تحذر بشدة من ثورة شعبية ضده، جراء سياساته الاقتصادية، وتحديدا بداية من عام 2016، بعد قرار تعويم الجنيه المصري.

هذه التقارير حذرت مما أسمته “ثورة جياع“، إذ إن الدافع الأساسي للغضب الشعبي، هو رفع الأسعار وتراجع مستوى المعيشة، والضغط على الطبقات الفقيرة.

وعقب اندلاع احتجاجات في مصر عقب قرار الحكومة بتخفيض عدد أرغفة الخبز، في مارس العام الماضي، توقعت مجلةفورين بوليسي“، حدوث ثورة جياع في مصر، مشيرة إلى ضغط السيسي على الطبقات الدنيا وإثراء زمرة صغيرة من الجنرالات السابقين، بموجب تنفيذ اتفاقات صندوق النقد الدولي.

واتهم التقرير السلطات المصرية بتنفيذ الاتفاقية على حساب الفقراء، وهو ما أدى إلى سلسلة من الأزمات الاقتصادية، أبرزها ما حدث في يوليو 2016، عندما اندلعت احتجاجات واسعة ضد نقص لبن الأطفال المدعم، وظهر الجيش في الصورة من خلال استيراد ألبان من الخارج، وبيعها بسعر مضاعف عما كانت عليه.

 

الاحتجاجات “محفزة”

وبغض النظر عن تحديد ما إذا كان الرفض الشعبي لرفع أسعار تذاكر المترو انتفاضة أم لا؟، فإن الاحتجاجات في حد ذاتها محفزة إلى انتفاضة غضب كبرى قد تتحول إلى ثورة، وربما هذا ما يقلق السيسي تماما.

وبالنظر إلى ما كانت عليه الأوضاع في يناير 2011، فإن الدعوة التي انطلقت كانت في ذكرى احتفالات عيد الشرطة، رفضا للممارسات هذا الجهاز تحت قيادة الوزير السابق حبيب العادلي، والتضييق على المعارضة، والاعتقالات والتعذيب في السجون، وتسخير كل الجهود لتوطيد أركان حكم مبارك، ومن بعده نجله جمال في إطار مشروع التوريث.

ولكن سرعان ما تحولت هذه الانتفاضة الغاضبة إلى ثورة شعبية مع إسقاط الشرطة المصرية في القاهرة الكبرى وعدد آخر من المحافظات، إذ إن الشرطة ورغم القسوة التي تعاملت بها مع المتظاهرين خلال أول يومين بداية من 25 يناير وصولا إلى جمعة الغضب 28 يناير، إلا أنها لم تمنع “التنفيس”.

وعمدت الشرطة خلال أول يومين من التظاهرات، على ترك مساحة من التجمع بقدر ضئيل والتحرك في بعض الأحياء الشعبية والشوارع غير الرئيسية، مع الحيلولة دون وصول أي مسيرة إلى ميدان التحرير.

وربما اتضح لدى السيسي أن هذا التكتيك الذي اتبعته الشرطة المصرية إبان ثورة يناير، كان خطأ، ولذلك فإنه لا يؤمن بهذا القدر من “التنفيس”عن الغضب تجاه قضايا بعينها.

والدليل على هذا التعامل مع تظاهرات جمعة الأرض، إذ سمح بالتظاهر أمام نقابة الصحفيين لبعض الوقت وسط حصار شديد، مع ملاحقة كل مسيرة أو تجمع في أي مكان آخر، فضلا عن التصدي لمسيرات وحشود حاولت التوجه إلى ميدان التحرير أو عمل مسيرة في منطقة وسط البلد.

لم يمكن السماح لبعض المتظاهرين التجمع أمام مسجد الجامع الأزهر بعيدا عن رؤية السيسي، إذ وافق على التجمع رفضا لقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة، قبل أن يفرق الأمن الوقفة ويلاحق المتظاهرين في الشوارع الجانبية، لعدم الاستجابة لنداءات قوات الأمن بفض الوقفة بعد فترة قصيرة.

الشاهد في أداء النظام الحالي وأجهزته الأمنية، هو عدم الرغبة في كسر حاجز الخوف الذي بناه خلال الأعوام الأربعة الماضية -وهذا سنتعرض له لاحقا في التقرير-، إذ ن خفض هذا الحاجز مع تصاعد الغضب الشعبي بفعل الضغوط الاقتصادية والسياسات التي طالت طبقات فقيرة، قد يتحول الأمر إلى انتفاضة كبرى، ربما تتحول إلى ثورة غضب ضد السيسي، تؤدي للإطاحة به من الحكم.

 

 

لماذا لا يثور المصريون؟

السؤال المهم الذي ينبغي الإجابة عليه، هو لماذا لا يثور المصريون رغم كل هذا الغضب الشعبي والرفض لسياسات اقتصادية مجحفة لطبقات فقيرة، وطالت أيضا الطبقة المتوسطة؟.

ويمكن تحديد عدة عوامل تحجم تفكير المصريين في القيام بثورة ضد السيسي:

 

أولا: تأثيرات غير محسوبة

جزء من توصيف اللي حصل في 2011 مش حقيقي.. محدش هيقدر يقول الكلام ده غيري أنا.. كله هيتحسب أنه يتهاجم.. توصيف المشاكل في الـ 30 سنة اللي فاتوا كان خداعا، ووعي زائف ليكم، وبالتالي حل المسألة اتحرك وشيل..وأنت بتشيل بتشيل مستقبلك، عايز تتحرك تاني وتعمل اتحرك هتضعها خالص هتضيع بلدك ومستقبلك خالص”.. جاء هذا الكلام على لسان السيسي.

السيسي أطلق هذه التحذيرات شديدة اللهجة بنبرة غاضبة تميل إلى الخوف، محاولا بث رؤية تشاؤمية للشعب المصري، بأن أي تحرك ضده من خلال خروج وثورة جديدة، يهدد مستقبل البلاد بأكملها، وقد يؤدي إلى سقوطها تماما، بما يصعب من الأوضاع المعيشية.

في السياق ذاته، لا يتوقف السيسي والموالون له عن ذكر عبارة “مش أحسن ما نبقى زي سوريا والعراق”، في إشارة إلى أن تردي المستوى المعيشي، أفضل من الأوضاع الأمنية المضطربة في البلدين المشار إليهما، وتحول المصريين إلى لاجئين.

الفزاعة التي يصدرها السيسي رغم أنها لم تعد تؤثر كثيرا في الشارع المصري، إلا أن تبعات ما حدث منذ 2011 وحتى الآن لا تزال قابعة في أذهان عدد ليس بالقليل من المصريين، بما يجعل من الخروج في ثورة جديدة خطوة ليست محسوبة العواقب.

 

ثانيا: القمع وملاحقة الشباب

عمد السيسي إلى استخدام “القوة الغاشمة” في التعامل مع أي احتجاجات، مع زيادة معدلات القمع للمعارضين خلال السنوات القليلة الماضية، وكان أبرزها القبض على رئيس حزب مصر القوية عبد المنعم أبو الفتوح قبل الانتخابات الرئاسية لمجرد معارضته للسيسي، فضلا عن سجن هشام جنينة عقابا له على تصريحات أدلى بها فيما يتعلق بكواليس ما حدث عقب ثورة يناير.

وتصاعدت معدلات القمع والتعذيب داخل السجون وفقا لما جاء في تقرير مركز النديم، وملاحقة الشباب قبل الانتخابات الرئاسية ببضعة أشهر، وحتى الآن.

كل هذه الممارسات تهدف بالأساس لخفض حاجز الخوف لأدنى مستوى له، وسط انتقادات شديدة لهذه الممارسات، خاصة وأن القمع ساهم في تراجع الاحتجاجات الشعبية.

وقالت منظمة “هيومن رايتس ووتش”، في يونيو الماضي، إن السلطات المصرية اعتقلت خلال الأسابيع الماضية 50 ناشطا سياسيا سلميا على الأقل، وحجبت 62 موقعا على الإنترنت على الأقل، وبدأت ملاحقات جنائية ضد مرشح رئاسي سابق، هذه الإجراءات تضيّق أي هامش لحرية التعبير ما زال قائما.

هذه الممارسات هدفها القضاء على أي تحركات لعناصر نشطة يمكن أن تشكل كتلة حرجة ونواة لانطلاق أي احتجاجات أو انتفاضة غضب، خاصة وأن النظام الحالي استخدم القوة في مواجهة الاحتجاجات الأخيرة اعتراضات على رفع أسعار تذاكر المترو.

 

ثالثا: محاكمات غير عادلة

كما أن النظام الحالي حاول مواجهة أي معارضين له خلال الفترة الماضية، من خلال تسخير القضاء لصالحه، عبر محاكمات غير عادلة وإجراءات مخالفة للدستور والقانون، من خلال التوسع في الاختفاء القسري دون تدخل من جهات التحقيق، فضلا عن توجيه اتهامات فضفاضة مثل السعي لقلب نظام الحكم ونشر أخبار كاذبة.

وصدرت انتقادات شديدة للمحاكمات في مصر لوصفها بـ “غير العادلة”، وكان من بين الانتقادات، ما صرح به السيناتور الجمهوري، جون ماكين، الذي وجه انتقادات لاذعة للمحاكمات الجماعية في مصر، طالبا من الكونغرس فرض معايير أكثر شدة تربط المساعدات إلى مصر بمعايير المحاكمات العادلة.

وفي هذا السياق، حددت النيابة العامة أرقام هواتف للإبلاغ عن أي مواطن ينشر أخبار كاذبة وشائعات لزعزعة استقرار الدولة.

رابعا: غياب المعارضة

ويمثل غياب المعارضة القوية للنظام الحالي وسياساته، حجر عثر أمام إمكانية تنظيم احتجاجات قوية ضد السياسات الحالية، خاصة في ظل التضييق عليها، والتحذير من الخروج عن السقف الموضوع لها.

وتحدث تقارير عن رفض النظام المصري، رفع الضغوط والتضييق على المعارضة خلال الفترة المقبلة بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية، بدعوى أنه لا حاجة لمثل هذه الممارسات خلال الفترة الحالية.

 

خامسا: المسكنات

ويعتمد النظام الحالي على سياسة المسكنات، من خلال إطلاق وعود بتحسن الأوضاع الاقتصادية، بعد السياسات السلبية جراء تنفيذ اشتراكات قرض صندوق النقد الدولي.

ولا يتوقف نظام السيسي عن إطلاق الوعود بتحسن الأوضاع، كان آخرها خلال عيد العمال مطلع الشهر الجاري، وما تبعه من متابعة تنفذ الحكومة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي، والتأكيد على ضرورة مراعاة الفئات الأكثر احتياجا والتخفيف من أعبائهم.

وفي مقابل الزيادات المرتقبة مع الموازنة الجديدة للدولة 2018 – 2019، فإن الحكومة بدأت تتحدث عن زيادة الرواتب للموظفين.

 

سادسا: فزاعة الإرهاب

منذ وصول السيسي إلى الحكم، وهو يقدم نفسه للشعب المصري على أن حامي الدولة ومنقذها من الإرهاب، ولذلك يلعب دائما على هذا الوتر، للحفاظ على وضعه على قمة هرم السلطة.

ويحاول السيسي ربط وجوده على قمة السلطة بالقضاء على الإرهاب وتوفير الأمن والأمان للشعب المصري، على الرغم من أن هذه المهمة طبيعية سواء للرئيس أو مؤسسات الدولة المعنية.

ولكن الرئيس الحالي يصدر نفسه دائما باعتباره “المنقذ”، وقال خلال زيارة خاطفة لسيناء في شهر مارس الماضي، “إن مواجهة الإرهاب أشرف مهمة على الإطلاق، لتحقيق الأمن والأمان للشعب المصرى العظيم”.