أثار تسليم حركة حماس لثلاثة محتجزين إسرائيليين في 8 فبراير 2025، ضمن جولة جديدة من تبادل الأسرى، ردود فعل إسرائيلية غاضبة، بعدما ظهر المحتجزون في حالة من الهزال الشديد، وهو ما دفع المسؤولين الإسرائيليين إلى تصعيد نبرة تصريحاتهم ضد المقاومة الفلسطينية.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي تحلى بالإنسانية لمدة ثوان ثقيلة هي وقت إدلائه بالتصريح وصف المشاهد بأنها “صادمة”، متوعدًا برد قاسٍ على ما أسماه “المعاملة اللاإنسانية للمحتجزين”. أما الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، فذهب أبعد من ذلك واعتبر ما حدث “جريمة ضد الإنسانية”، وأبدى استياءه من الحالة الصحية للجنود عند الإفراج عنهم.
الغريب أن هذه التصريحات القوية تصدر من مرتكبي أبشع جرائم الإبادة الجماعية في العصر الحديث، إبادة قضت على الأخضر واليابس ونسفت كل ألوان الحياة داخل القطاع الحزين حيث يموت الفلسطينيون بالعشرات بسبب الجوع وانعدام الرعاية الصحية.
الإنسانية العنصرية: عندما تكون الضحية إسرائيليًا فقط
لا يمكن فصل هذه الموجة من الغضب الإسرائيلي عن ازدواجية المعايير التي تمارسها تل أبيب وأجهزتها الإعلامية. ففي الوقت الذي تصف فيه تدهور صحة المحتجزين بـ”الوحشية”، لم تُبدِ أي اكتراث بالأسرى الفلسطينيين الذين خرجوا من السجون في أوضاع مذرية وقد تعرضوا لكل صنوف التعذيب وهو تنكيل مقصود وغير مبرر بينما كان الأسرى محتجزين داخل قطاع يتعرض لأعنف موجات القصف يوميا لينهي 80% من مبان القطاع وسط حصار خانق يمنع حتى المياه عن القطاع، بينما لم يكترث الجيش الإسرائيلي بحياة جنوده وواصل عملياته الإجرامية التي قتلت كثير منهم بالفعل مع آلاف الأطفال ماتوا تحت الأنقاض، أو بسبب الجوع في شمال غزة.
حتى عندما خرجت تقارير الأمم المتحدة لتؤكد أن سكان غزة يواجهون “مجاعة حقيقية”، لم تحرك إسرائيل ساكنًا، بل استمرت في قصف الشاحنات القليلة التي تحمل المساعدات، ومنعت وصولها إلى المناطق الأكثر تضررًا، وهي تعلم أن حياة وسلامة أسراها مرهونة بوقف عملياتها الإجرامية، فعلام المفاجأة.
“جرائم ضد الإنسانية” حسب الهوية
اللافت أن إسرائيل، التي اعتبرت أن حالة الجنود المفرج عنهم “جريمة ضد الإنسانية”، لم ترَ في عشرات الآلاف الفلسطينيين الذين قضوا بسبب الحرمان من الغذاء والدواء أي جريمة تستحق الذكر.
حتى حين كانت المستشفيات في غزة تُباد، وحين قُطعت الكهرباء عن الحضّانات مما أدى إلى وفاة عشرات الأطفال الخُدج، لم يكن هناك أي تعبير عن القلق الإنساني من المسؤولين الإسرائيليين، بل على العكس، وصف بعض قادتهم ذلك بأنه “ضربة موفقة” واعتبروا الحرب وسيلة ناجحة “لإضعاف معنويات العدو”، وكأن الحديث هنا عن جمادات وليس عن بشر.
ازدواجية المعايير ليست جديدة.. لكنها باتت أكثر فجاجة
هذه الإنسانية الانتقائية المقيتة ليست جديدة على إسرائيل، فقد رأيناها سابقًا في كل حروبها، حيث يُعامل الجندي الإسرائيلي كأسير حرب يستحق الاحترام، بينما يُعامل الفلسطيني الأعزل كرقم يمكن شطبه دون حساب.
لكن في الحرب الجارية، أصبحت هذه الازدواجية أكثر فجاجة، حيث أن قادة إسرائيل الذين ينددون اليوم بتجويع محتجزيهم، هم أنفسهم الذين فرضوا سياسة “تجويع غزة حتى الاستسلام”، والتي وصفها مسؤولون إسرائيليون بأنها استراتيجية ممنهجة تهدف إلى الضغط على المدنيين لإرغام المقاومة على القبول بشروط الاحتلال.
عندما تكون “الإنسانية” انتقائية، وعندما لا تكون حياة الفلسطينيين ذات قيمة بالنسبة للعالم الغربي الذي يدعم إسرائيل، فإننا لا نتحدث عن إنسانية حقيقية، بل عن نفاق فج، وعنصرية مقززة، ومنظومة أخلاقية متهالكة ترى القتلى حسب هوياتهم، لا حسب إنسانيتهم.
هذا السلوك الإسرائيلي يثبت مرة أخرى أن الاحتلال لا يملك أي مبررات أخلاقية أو إنسانية في حربه، فهو يذرف دموع التماسيح على بعض المحتجزين بينما يقتل الفلسطينيين بلا رحمة، ثم يطالب العالم بأن يتعاطف معه.
اضف تعليقا