في واحدة من أجرأ الشهادات التي خرجت للعلن بعد سقوط نظام بشار الأسد، كشف رجل الأعمال السوري منذر نزهة كيف تحوّل الاقتصاد السوري في العقود الأخيرة إلى ما يشبه “مزرعة مغلقة” تخضع لمنطق الولاءات لا للكفاءة أو الإنتاج.
إن ما تحدث عنه نزهة لا يمثل مجرد قصة فردية لرجل أعمال اصطدم بمنظومة فاسدة، بل يختزل سردية كاملة عن دولة تحوّل فيها الاقتصاد إلى أداة للسيطرة، والإذلال، والإقصاء، في نظام يعرف تمامًا كيف يخلط الأمن بالمال ليُحكم الخناق على شعبه.
من الكفاءة إلى الولاء: خارطة الاقتصاد السوري في قبضة العائلة
وفق ما رواه نزهة، فإن السنوات الخمس عشرة الأخيرة من حكم النظام المخلوع شهدت تشكُّل ما يمكن تسميته بـ”اقتصاد الولاءات”.
لم يكن النجاح الاقتصادي مقبولًا في سوريا إلا إذا اقترن بالرضا الأمني، والرضا الأمني لم يكن مجانياً، بل يتطلب شراكة قسرية، أو عمولة دائمة، أو حتى تنازلاً كاملاً عن المشروع.
المشاريع الكبرى كانت تُرصد من قبل شبكات أمنية واقتصادية، وما أن تبدأ بالربح أو تتحوّل إلى حديث السوق، حتى تُفرض عليها شراكة “من فوق”.
الولاء هنا لم يكن مجرد موقف سياسي، بل كان بوابة للبقاء في السوق. ورجال الأعمال كانوا في أغلبهم إما شركاء مُرغمين، أو خصومًا محتملين ينبغي تحطيمهم. هكذا تحوّلت السوق السورية إلى ساحة انتقائية، يُسمح فيها لمن اختارهم النظام بالبقاء، بينما يُقصى الباقون، أو يُطردون، أو يُزجّ بهم في السجون.
والأكثر فداحة أن بعض المشاريع الناجحة كانت تُصادر بالكامل تحت ذريعة الضرائب أو “المخالفات القانونية”، بينما الحقيقة أنها أصبحت مغرية أكثر من اللازم لأبناء الدائرة الضيقة.
الأسماء الوهمية: كيف تُسرق المشاريع باسم الدولة؟
من أخطر ما كشفه نزهة كان استخدام النظام لما يُعرف بـ”الأسماء الوهمية”. في الظاهر، يظهر المشروع على أنه استثمار خاص، أو شركة ناجحة، لكن المالك الحقيقي هو اسم من الأسماء المحمية أمنيًا.
يتم تسجيل المشروع باسم أحد رجال الأعمال، لكن الأرباح تُحوّل إلى مكان آخر، والقرارات تُؤخذ من مكتب أمني، والتوظيف يُمرّر عبر الحزب أو الفروع الأمنية.
هذه الطريقة سمحت للنظام بإنشاء شبكة اقتصادية موازية، تستفيد من كل شيء دون أن تتحمل أي مسؤولية قانونية أو ضريبية. ومع الوقت، لم يعد هناك قطاع اقتصادي واحد خارج سيطرة هذه الشبكة: من العقارات إلى النفط، ومن الفنادق إلى البنوك، ومن تجارة السيارات إلى استيراد المواد الغذائية.
الاستثمار في قلب الحرب: مجازفة أم اضطرار؟
المفارقة أن نزهة، وهو مستثمر في قطاع السياحة، اختار الاستثمار في دمشق خلال ذروة الحرب. لم يكن قراره نتيجة دعم للنظام، بل رهان على البقاء في السوق رغم التهديدات.
تحدث عن استثماره في فندقي “سميراميس” و”غولدن مزة”، في وقت كانت فيه العاصمة مسرحًا للقصف والمداهمات. بعضهم رأى في ذلك مخاطرة، وآخرون رأوه تقربًا من النظام. لكنه يصرّ على أنه كان بعيدًا عن الدائرة الضيقة المرتبطة برامي مخلوف.
وربما يحمل هذا التضارب دلالة على كيف أجبر النظام رجال الأعمال على التحرك في مناطق ضبابية، حيث لا يوجد خط واضح بين التعاون مع الدولة والارتهان لها.
إما أن تعمل في ظل النظام، أو تختفي من المشهد. فحتى أبسط المشاريع لم تكن تنجو من الابتزاز؛ فالرخصة تحتاج واسطة، والتمويل يحتاج ولاء، والتوسع يحتاج إذنًا من الأجهزة.
لحظة الانفراج: حين سقطت دمشق
في الثامن من ديسمبر، وعندما دخلت فصائل المعارضة العاصمة دمشق، تغيّر كل شيء. انسحب النظام من المؤسسات، وتبدّدت القبضة الأمنية، وخرج الناس من صمتهم الطويل. في تلك اللحظة، بدأت شهادات مثل شهادة نزهة تخرج إلى العلن، وتنكشف طبقات الفساد التي كانت مخفية بعناية.
لكن الأهم من ذلك، أن الشعب السوري بات يكتشف أن اقتصاده لم يكن يدار لصالحه، بل كأداة لإدامة حكمٍ لا يرى في سوريا وطنًا، بل غنيمة حرب ينبغي توزيعها بين الموالين.
كانت المؤسسات الاقتصادية تُدار كما تُدار الميليشيات: بالولاء، بالرشوة، وبالتهديد، وكانت النتيجة شللًا تامًا في التنمية، وهروب رؤوس الأموال، وتبخر فرص العمل.
ما بعد الأسد: هل يمكن بناء اقتصاد جديد؟
يشير نزهة إلى أن سوريا اليوم أمام فرصة تاريخية بعد التحرير، لإعادة بناء اقتصاد حقيقي، يقوم على الشفافية، والعدالة، والكفاءة، لا على الولاء. ويرى أن هناك “فرصًا هائلة” إذا ما تم قطع الطريق أمام عودة رموز الفساد، وفتحت الأبواب أمام السوريين الحقيقيين الذين حُرموا من الاستثمار، أو أُجبروا على الهجرة.
لكن بناء اقتصاد جديد في سوريا لن يكون سهلاً، فشبكات الفساد لم تنهَر بالكامل، وهناك من يسعى اليوم لإعادة تدوير نفسه داخل النظام الجديد. التحدي الأكبر ليس فقط في هدم النظام القديم، بل في منع شبحه من التسلل إلى المستقبل. وهذا يتطلب أولًا محاسبة من تورطوا، وثانيًا بناء مؤسسات رقابية مستقلة، وثالثًا تبني نموذج اقتصادي لا يُكافئ القرب من السلطة بل الجودة والإنتاج.
كما أن إعادة الثقة بالاقتصاد السوري يحتاج إلى حوافز حقيقية، تشمل ضمانات قانونية، وحماية للاستثمار، وآليات سريعة للعدالة التجارية، إضافة إلى شراكة قوية مع المغتربين الذين شكلوا طيلة عقود شريانًا اقتصاديًا لسوريا وتم تهميشهم عمدًا.
خلاصة: الولاء لا يبني وطنًا.. بل يهدمه
قصة الاقتصاد السوري في عهد الأسد هي قصة وطن حوّله حاكمه إلى شبكة من العلاقات الزبائنية. كل مشروع كان يحتاج ختمًا أمنيًا، وكل استثمار مشروطٌ بتقاسم الأرباح مع من لا يعملون ولا يدفعون، بل ينهبون.
ما تكشفه شهادة نزهة، وغيرها من الشهادات التي بدأت تظهر تباعًا، هو أن معركة السوريين ليست فقط ضد نظام قمعي، بل ضد نموذج اقتصادي كامل يقوم على الإخضاع بدل الشراكة، وعلى النهب بدل التنمية.
اليوم، ولأول مرة منذ عقود، يمتلك السوريون فرصة لصياغة اقتصاد جديد، اقتصاد لا يَسأل عن الولاء، بل عن الكفاءة، ولا يطلب البيعة، بل يُراهن على الشراكة.
ولعل أول خطوة في هذا الطريق هي قول الحقيقة.. ثم كتابة العقود بشفافية، لا في مكاتب المخابرات، بل في مؤسسات وطنية تحترم القانون.
فالوطن لا يُبنى على الولاءات.. بل على العدالة، وسيادة القانون، وكرامة الإنسان.
اقرأ أيضًا : على كرسي متحرك.. قصة جندي سوري تحدى الموت بشجاعة لا تُقهر
اضف تعليقا