كشفت تقارير إعلامية عبرية عن أول زيارة لوفد يهودي أمريكي إلى سوريا منذ سقوط نظام بشار الأسد، في خطوة وصفت بأنها تأتي في سياق محاولات التطبيع وإعادة صياغة العلاقات الإقليمية بعد التحولات الأخيرة في البلاد. الزيارة، التي قادها حاخامات أمريكيون ومسؤولون يهود بارزون، أثارت العديد من التساؤلات حول توقيتها، أهدافها، والأجندة الخفية التي تحملها، في ظل استمرار الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، واستغلال انهيار دول عربية لتنفيذ مشاريع التطبيع.
وفقًا للصحيفة العبرية التي نشرت تفاصيل الزيارة، فقد حظي الوفد بمعاملة “VIP” داخل دمشق، والتقى بمسؤولين في الحكومة السورية الجديدة، مما يطرح تساؤلات خطيرة حول طبيعة العلاقة التي تحاول هذه الجهات نسجها في سوريا ما بعد الأسد. لم تكن هذه الزيارة مجرد رحلة لاستكشاف التراث اليهودي في سوريا، كما تم الترويج لها، بل يبدو أنها تحمل أبعادًا سياسية وأمنية أكثر عمقًا، خصوصًا مع تزايد الحديث عن الدور الإسرائيلي في إعادة تشكيل المشهد السوري بعد الحرب.
الوفد الذي ضم شخصيات يهودية أمريكية وصل إلى دمشق تحت رعاية منظمة “سوريا تاسك فورس”، وهي منظمة أمريكية تنشط في الملف السوري منذ اندلاع الحرب. أعضاء الوفد تحدثوا بحماسة عن “الحفاوة” التي لاقوها، وكيف أن سكان دمشق، بمن فيهم مسؤولون في الحكومة الجديدة، أبدوا ترحيبهم بعودتهم، الأمر الذي ركز عليه الإعلام العبري كدليل على “التطور الإيجابي” في الموقف السوري تجاه اليهود، في محاولة مكشوفة لتمهيد الأرضية لمزيد من الاختراق الإسرائيلي للمنطقة.
اللافت في التقارير التي نشرتها الصحافة العبرية هو محاولتها تصوير الزيارة على أنها تعكس “رغبة سورية” في إعادة اليهود إلى البلاد، متجاهلة حقيقة أن هذه التحركات تجري وسط ضغوط دولية على سوريا وإعادة تشكيل التحالفات في المنطقة. هذا الطرح يتماشى مع السردية الإسرائيلية التي تسعى إلى فرض التطبيع كأمر واقع من خلال استغلال انهيار الدول العربية وتشرذمها.
الإعلام العبري لم يتوقف عند استعراض تفاصيل الزيارة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، عبر إبراز لقاءات الوفد اليهودي مع مسؤولين سوريين، وتصوير الأمر على أنه خطوة نحو “مصالحة تاريخية”. الحاخامات الذين قادوا الزيارة لم يتحدثوا فقط عن زيارة مواقع تراثية يهودية، بل وجهوا رسائل علنية إلى الحكومة السورية حول إمكانية “إعادة بناء الجسور” و”المساهمة في إعادة إعمار البلاد”، وهو خطاب يحمل في طياته أبعادًا سياسية أكثر من كونه مجرد حديث عن التراث الديني أو الثقافي.
التقارير ركزت كذلك على أن أحد الحاخامات بعث برسالة تهنئة إلى الحكومة السورية الجديدة، معربًا عن “رغبة اليهود في العودة والمشاركة في إعادة إعمار البلاد”، وهو ما يعكس توجهًا واضحًا نحو استغلال التحولات السياسية في سوريا لإضفاء شرعية على الوجود الإسرائيلي غير المباشر في المنطقة. هذه الرسائل تأتي في سياق مخطط إسرائيلي أوسع لاستغلال الضعف العربي لإعادة تشكيل موازين القوى، عبر تعزيز وجود اليهود في دول شهدت صراعات وحروبًا داخلية.
التركيز الإعلامي الإسرائيلي على “التفاعل الإيجابي” للسوريين مع زيارة الوفد اليهودي يهدف إلى إيصال رسالة بأن البيئة السياسية في سوريا أصبحت مهيأة للقبول بالتطبيع. الصحافة العبرية أبرزت بشكل متكرر مظاهر الترحيب بالوفد، وتصريحات السكان المحليين حول “أهمية وجود اليهود في سوريا”، وهو طرح يتجاهل حقيقة أن هذه اللقاءات تمت في سياق سياسي وأمني معقد، حيث تسعى جهات عديدة لفرض أجنداتها على مستقبل سوريا.
الأمر لا يتعلق فقط بالترويج لفكرة عودة اليهود إلى سوريا، بل يتعدى ذلك إلى استغلال هذا الملف كمدخل لاختراق أوسع للمنطقة. إسرائيل تدرك جيدًا أن التطبيع المباشر مع الشعوب العربية يواجه رفضًا واسعًا، ولذلك تسعى إلى استخدام هذه الزيارات كجس نبض، ومعرفة مدى استعداد بعض الأنظمة الجديدة لتقديم تنازلات سياسية في هذا الملف.
ما يجعل هذه الزيارة أكثر إثارة للقلق هو أن الإعلام العبري يسعى إلى تقديمها كـ”نموذج” يمكن تكراره في دول عربية أخرى. الحديث عن أن الوفد اليهودي حظي بحماية وتسهيلات من قبل السلطات السورية الجديدة يعكس مدى تغلغل بعض الجهات في إعادة رسم المشهد الإقليمي، وفقًا لمصالح أطراف خارجية.
وبينما يستمر الاحتلال الإسرائيلي في احتلال الجولان السوري، وقصف المدن الفلسطينية، وتهويد القدس، وممارسة القمع ضد الفلسطينيين، تعمل جهات إسرائيلية على اختراق المجتمعات العربية سياسيًا وإعلاميًا، لتصوير إسرائيل كطرف مرحب به في المنطقة، رغم كونها العدو الحقيقي لكافة الشعوب العربية.
لم تخلُ التغطية العبرية للزيارة من رسائل الحنين إلى “الأيام الخوالي”، حيث جرى الترويج لفكرة أن اليهود السوريين الذين غادروا البلاد “لا يزالون يحتفظون بعلاقة قوية بوطنهم”، وأنهم مستعدون للعودة والاستثمار في “سوريا الجديدة”. هذه اللغة ليست مجرد عبارات ودية، بل جزء من سردية دعائية تهدف إلى تقديم إسرائيل كطرف يمكنه لعب دور إيجابي في مستقبل سوريا.
هذه الزيارة هي نموذج واضح لمحاولات إسرائيلية لإعادة اختراق المجتمعات العربية تحت غطاء “التعايش” و”إعادة بناء الجسور”، وبينما تسوّق إسرائيل هذه الزيارات كمبادرات بريئة، فإن الحقيقة تشير إلى أنها جزء من مخطط أوسع يهدف إلى فرض وجودها في الدول العربية المنهكة بالحروب، وتمرير مشاريع التطبيع كأمر واقع.
اضف تعليقا