تتحرك خيوط مشروع انفصالي خطير في الجنوب السوري، تقوده شبكة معقدة من الشخصيات الدرزية التي ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بالاحتلال الإسرائيلي، وبدعم إعلامي وسياسي واقتصادي وعسكري، تكشفت معالمه تدريجيًا بعد أن بدأت القصة بإعلان عابر عن وظيفة نُشر في مطلع عام 2025 عبر حساب إسرائيلي يدعى “يامال شيفسكي”، يروج للعمل للدروز السوريين داخل الأراضي المحتلة، قبل أن يُحذف الإعلان لاحقًا، لكن انتشاره السريع على يد شخصيات درزية سورية، كان الخيط الأول الذي كشف شبكة من الحسابات والمنصات والأشخاص، تبين أنها تنشط منذ شهور في بث خطاب منظم يروج لفصل السويداء عن سوريا، والدعوة إلى تحالف سياسي وعسكري مع الاحتلال.
هذه الشبكة لا تعمل على مستوى فردي أو عشوائي، بل ضمن بنية مترابطة ومتسلسلة، بحسب تحليلات أجرتها منصة إيكاد، والتي كشفت أن هذه الكشفة تتوزع أدوارها بين الترويج الإعلامي، والاستغلال الاقتصادي، والتنسيق السياسي، إلى جانب ذراع عسكرية حديثة النشأة تتبنى خطابًا توراتيًا متطرفًا يرى السويداء جزءًا من “مملكة إسرائيل الكبرى”، ويرفع علم الاحتلال داخل الأراضي السورية، ويهدد الحكومة المركزية ويشارك في هجمات عسكرية ضد دمشق.
أبرز الأسماء التي قادت الترويج الإعلامي للشبكة كان مشعل الشعار، الذي أسس عدة منصات أبرزها صفحة “الناقد”، وقاد من خلالها حملة منظمة للترويج للعمل داخل إسرائيل، تحت ذريعة الأزمة الاقتصادية التي تمر بها السويداء، بالتوازي مع صفحات أخرى تحمل الطابع الدرزي وتروج لروايات الانفصال. بتحليل تفاعلات حسابه، برزت عدة أسماء تشاركه الدور ذاته، من بينها “أبو كنان ملا” الذي ينشط بكثافة ضد الحكومة السورية ويدعو للانفصال، كما ظهر “فؤاد مراد”، المقيم في هولندا، والذي يدير عدة حسابات تتبنى الخطاب الانفصالي، وتدافع عن إسرائيل وتروّج لمشروع “الهجري”، فيما تبين أنه يرتبط بعلاقات مباشرة مع شخصيات سياسية إسرائيلية، منها أيوب كارا، الوزير الإسرائيلي الدرزي السابق، الذي بدوره أعلن في فبراير/شباط 2024 عن محادثات لاستقدام الدروز السوريين إلى إسرائيل، بدلًا من عمال الضفة، وبرر دعوته بالحالة الاقتصادية المتدهورة في الجنوب السوري. هذا التناغم بين رواية كارا والإعلانات المنتشرة على صفحات درزية سورية لم يكن محض صدفة، بل جزء من شبكة واضحة المعالم.
من الشخصيات الأخرى التي تشارك في الحملة “طاهر غزالي”، الذي غادر سوريا عام 2017 واستقر في هولندا، ثم ظهر في مارس 2025 في صورة بمقام النبي شعيب داخل الأراضي المحتلة، إلى جانب الشيخ الإسرائيلي أبو يوسف القضماني. كما ظهر اسم “شادي أبو عمار”، الناشط في هولندا، والذي يدير صفحات “الحركة الشبابية الدرزية” و”وحيد”، وتعمل هذه المنصات ضمن بنية متكاملة لنشر خطاب الانفصال والترويج لتصريحات نتنياهو الإيجابية عن الدروز. ويتكامل مع هذا النشاط الإعلامي “حمزة معروف”، الذي يدير منصة “Druze Pressz” ويتبنى خطابًا طائفيًا معاديًا للإسلام، كما ظهر اسم “معضاد خير”، الذي يروج لنفسه كخبير في الأمن السيبراني، ويدير صفحة “الدرع السيبراني الدرزي” التي نمت بشكل غير طبيعي ووصلت إلى مئة ألف متابع، رغم غياب أي محتوى احترافي حقيقي، ما يرجح أنها مدفوعة بتمويل خارجي، لا سيما وأن الإسرائيلي منهل أتشي نشر خبرًا زعم فيه تعيين “معضاد خير” مستشارًا لأيوب كارا، وهو ما يكشف ترابطًا واضحًا بين الشخصيات الدرزية السورية والإسرائيلية ضمن هذه الحملة.
الشق الإعلامي لا يعمل منفصلًا عن الأرض، بل يرتكز على قاعدة اقتصادية أُسست بعناية عبر بث إعلانات التوظيف والادعاء بأن إسرائيل هي المنقذ الاقتصادي الوحيد لدروز السويداء. الصفحات التابعة للشبكة مثل “السويداء الحرة”، “هنا صلخد”، “Freier Druzen”، و”Druze Press” ضخت محتوى موحدًا من حيث التوقيت والمضمون، يهاجم الحكومة السورية، ويمتدح إسرائيل، ويعيد نشر نفس الروايات والقصص. اللافت أن هذه الحسابات غيرت صورها الشخصية بشكل متزامن إلى رموز مرتبطة بالاحتلال، كما بثت محتوى موحدًا في التوقيت، ما يدل على وجود غرفة تحكم واحدة تدير الرسائل والتوقيتات، وليس مجرد تفاعل تلقائي من أفراد مشتتين.
لكن الأخطر في هذا المشروع لم يكن في الإعلام أو السياسة فقط، بل في الذراع العسكري الذي انكشف بعد سقوط نظام الأسد أواخر 2024، وتشكيل ما سُمي بـ”المجلس العسكري للسويداء” في 24 فبراير/شباط 2025، برئاسة العقيد طارق الشوفي، وقيادة العميد سامر الشعراني، أحد ضباط النظام السابق، والمرتبط بجرائم حرب موثقة. يتبنى هذا المجلس خطاب الشيخ حكمت الهجري، ويروج لمواقفه ويرفض الحكومة المركزية. لكن بتحليل تركيبة المجلس ومواقف فصائله، يظهر بوضوح أنه يعمل على تأسيس نموذج عسكري انفصالي، يتماهى مع المشروع الإسرائيلي. من أبرز فصائل المجلس، فصيل “بيرق سليمان بن داوود”، الذي يقوده “ماجد سعد أبو راس”، المعروف بلقب “أبو نجم”، وهو مقاتل سابق في جيش النظام، أسس مجموعة على فيسبوك تحمل اسم البيرق، دعا من خلالها إلى التحالف العقائدي والعسكري مع إسرائيل، واحتفل بتصريحات نتنياهو عن الدروز، ونشر صورًا للعلم الإسرائيلي والنجمة السداسية واعتبر أن السويداء ستصبح “زرقاء” في إشارة لضمها إلى إسرائيل. كما نشر مقاطع للمتحدث باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي، ورفع العلم الإسرائيلي في دوار العنقود، وهدد من أسماه “أعداء نجمة داوود”، متوعدًا بالدفاع العسكري عن رموز الاحتلال داخل الأراضي السورية.
المقاتلون في البيرق لا يتحركون فرادى، بل ضمن منظومة واضحة. أبرزهم “سامر أبو غازي” (أبو ورد)، الذي ظهر في لقاءات رسمية لمندوبي الفصيل مع مشيخة عقل السويداء، وكان من الحاضرين في بيان انضمام البيرق إلى المجلس العسكري. يتفاعل بشكل دائم مع الجندي الإسرائيلي الدرزي “سليمان أبو لطيف” الذي يوجه دعوات مباشرة لتوحيد فصائل السويداء مع جيش الاحتلال. كما يظهر “جيڤارا أبو غازي”، و”سامر الشبلي”، وهو الأخير الذي نشر صورة تجمع راية البيرق والعلم الإسرائيلي معًا، وشارك في منشورات تمجّد جيش الاحتلال وتدعو لتدخله المباشر في سوريا.
الأخطر أن فصيل البيرق لم يكتفِ بخطاب الكراهية والتطبيع العقائدي، بل شارك في الهجوم الذي شنته فصائل السويداء على دمشق أواخر أبريل، وأصيب قائده “ماجد أبو راس” في إحدى المعارك، بحسب منشور لمهير محمد مسعود مشرف مجموعة الفصيل. وتشير التحليلات إلى أن الفصيل ينشط أساسًا في منطقة الرحى جنوب شرق السويداء، وهي مسقط رأس “أبو راس”، كما أكد إعلامي البيرق “خالد جريرة” في منشوراته.
ما يجري في السويداء ليس مجرد ارتباك سياسي بعد سقوط النظام، بل مشروع انفصال متكامل تديره شبكة إعلامية واقتصادية وسياسية مدعومة من الاحتلال الإسرائيلي، وبتمويل إماراتي خفي، يعمل على خلق وقائع ميدانية جديدة، وتأسيس كيان مسلح يعلن ولاءه لإسرائيل، ويتبنى رؤية توراتية عن الجنوب السوري كجزء من “أرض الباشان” التوراتية. هذه الشبكة ليست سوى رأس جبل الجليد، وما خفي أعظم، والتحقيقات القادمة ستكشف مزيدًا من الخلايا والشخصيات التي تتحرك خارج الرادار لخدمة هذا المشروع.
اضف تعليقا