في مشهد جديد من مشاهد إذلال الاحتلال لحلفائه المحليين، كشفت صحيفة “معاريف” الإسرائيلية عن قرار خطير اتخذته حكومة بنيامين نتنياهو بمنع طائرة الرئيس الفلسطيني محمود عباس من الإقلاع من العاصمة الأردنية عمان باتجاه دمشق، مما تسبب في إحراج بالغ لملك الأردن عبد الله الثاني، الذي بات يلعب دور “الوسيط المطيع” لخدمة الاحتلال دون أن ينال سوى التجاهل والإهانة.
هذه الخطوة لم تكن مجرد إجراء بيروقراطي أو خطأ إداري، بل كانت رسالة سياسية واضحة ومقصودة تحمل في طياتها احتقارًا مزدوجًا: أولًا، تجاه سلطة أوسلو ورئيسها الذي يتماهى مع الاحتلال أمنيًا؛ وثانيًا، تجاه النظام الأردني الذي يحرس حدود “إسرائيل” الشرقية ويعتقل كل من يفكر في المقاومة أو رفع الصوت ضد التطبيع.
ملك الأردن.. من حماية الاحتلال إلى تلقي الصفعات منه
منذ توقيع اتفاقية وادي عربة عام 1994، لعب النظام الأردني دور الحارس المخلص للمصالح الإسرائيلية، سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا.
لم يقتصر دور النظام على التنسيق الأمني والتطبيع الرسمي، بل امتد ليشمل ملاحقة النشطاء المناهضين لـ”إسرائيل”، واعتقال المعارضين لتواجد السفارة الإسرائيلية في عمان، والتضييق على كل صوت يناصر المقاومة.
وفي السنوات الأخيرة، ازداد ارتباط الملك عبد الله الثاني بمنظومة الأمن الإقليمي المرتبطة بالاحتلال، وبدلاً من أن يكون الأردن حائط صد يحمي القضية الفلسطينية، تحوّل إلى ساحة لضبط الإيقاع بما يتماشى مع المصالح الصهيونية.
لكن المفارقة الموجعة، أن كل هذا الولاء لم يشفع للنظام الأردني أمام قرارات الاحتلال الذي يتصرف كالسيد المتعجرف أمام خدمه، لا يعترف بجميل ولا يراعي حرجًا.
لقد تعمّدت حكومة نتنياهو، وفق الصحيفة العبرية، إحراج الملك بشكل مباشر، ورفضت بشكل فاضح منح الإذن للطائرة الملكية الأردنية التي كانت تقل الرئيس عباس لعبور الأجواء السورية، ما اضطر الطائرة إلى التوقف، وعباس إلى إلغاء الرحلة جوًا والتوجه إلى دمشق برًا.
هذا الإجراء لم يكن معزولًا، بل سبقه تصعيد صهيوني متعمد ضد الأردن، مثل ما حدث مؤخرًا من انتقادات إسرائيلية غاضبة بسبب تصرف نائب نقيب المحامين الأردنيين، الذي داس علم “إسرائيل” عند مدخل النقابة، وهي خطوة بسيطة رمزية قوبلت من الاحتلال ببيانات شجب وتهديدات صريحة.
وربما الأشد وقعًا هو ما نشرته “معاريف” بأن هذا الرفض ليس فنيًا، بل سياسي ومقصود هدفه إحراج النظام الأردني علنًا أمام حلفائه.
إذلال مزدوج لعباس والملك.. التابع لا يُحترم
قرار الاحتلال منع طائرة محمود عباس من الإقلاع يضع النقاط على الحروف في علاقة “إسرائيل” برئيس السلطة الفلسطينية؛ فمهما قدّم عباس من تنازلات، ومهما تفانى في التنسيق الأمني الذي تفتخر به السلطة، فإن الاحتلال ينظر له نظرة ازدراء لا تختلف كثيرًا عن نظرته لبقية الشعوب العربية.
عباس الذي لطالما رفض المقاومة، وقاد السلطة نحو قمع المقاومين في الضفة الغربية، وأعلن أن “التنسيق الأمني مقدس”، لم يجد من الاحتلال إلا مزيدًا من الإهانة.
إجبار رئيس “السلطة” على السفر برًا بعدما أُغلق الجو في وجهه، هو رسالة واضحة لكل من يراهن على العلاقة مع الاحتلال، بأن الطاعة لا تساوي احترامًا، وأن من يتخلى عن شعبه لا يجد من الاحتلال سوى الإذلال والتهميش.
لكن الأكثر إيلامًا في هذه الحادثة، أن الطائرة التي تم رفض منحها الإذن للإقلاع هي طائرة ملكية أردنية، ما يعني أن الاحتلال لا يرى فرقًا بين السلطة الأردنية والسلطة الفلسطينية، فكلاهما – من وجهة نظره – أدوات وظيفية لا تستحق الاعتبار.
ورغم أن الأجواء الجوية السورية التي منعتها “إسرائيل” في هذه الحالة لا تخضع رسميًا لها، فإنها في الواقع تسيطر فعليًا على جزء كبير من أجواء المنطقة منذ دخولها في التنسيق مع روسيا وأمريكا عبر آليات فض الاشتباك في سوريا. وبموجب ذلك، منعت الطائرة من العبور، لتكون الرسالة واضحة: “نحن نتحكم، وأنتم تنفذون فقط”.
تدهور العلاقات
حادثة منع الطائرة لا يمكن فصلها عن التوتر المتصاعد مؤخرًا بين “تل أبيب” وعمّان. فقد سبق للحكومة الإسرائيلية أن ردت على تأخر السلطات الأردنية في السماح لطائرة إماراتية بنقل نتنياهو إلى أبوظبي، بإجراء عقابي تمثل في إغلاق الأجواء الإسرائيلية أمام الطيران الأردني.
هذا النوع من الإجراءات العقابية المتبادلة، يكشف مدى هشاشة ما يسمى بـ”السلام” بين الطرفين، ويؤكد أن الاتفاقيات التي تم الترويج لها لعقود لم تُنتج سوى المزيد من التبعية من جانب الأردن، والمزيد من الغطرسة من جانب الاحتلال.
الملفت أن بعض الأصوات داخل الكيان الصهيوني نفسه وصفت هذه التصرفات بـ”فقدان العقل” و”غير المسؤولة”، لأن العلاقات مع الأردن تمثل – من وجهة نظر مؤسسات الأمن الإسرائيلية – مصلحة استراتيجية ينبغي الحفاظ عليها، خاصة في ظل تصاعد المقاومة الفلسطينية، واحتدام الصراع في الضفة الغربية وقطاع غزة.
لكن حكومة نتنياهو الحالية التي تسيطر عليها أطراف متطرفة، مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، لا تأبه بهذه التحفظات، وتسعى لتصدير أزماتها الداخلية عبر استعراضات استعلائية تجاه الدول المجاورة، حتى وإن كانت حليفة.
دروس من حادثة الطائرة.. من يُذل نفسه يُذلّه غيره
حادثة منع إقلاع طائرة عباس من الأردن إلى دمشق، ليست مجرد واقعة بروتوكولية، بل هي فصل جديد من فصول إذلال الاحتلال لعملائه المحليين.
الرسالة التي بعثت بها “إسرائيل” واضحة: لا مكان لاحترام من يخون شعبه، ولا اعتبار لملك يحرس حدودنا ويسجن مقاومينا.
تُظهر هذه الواقعة حقيقة العلاقة التي تجمع الاحتلال بمن يتبنون مسارات “السلام” والتنسيق الأمني: علاقة سيد بعبد، وعلاقة متحكم بأدواته.
لقد خسر عباس آخر أوراقه، وأصبح ملك الأردن بلا هيبة، وظهرت “إسرائيل” كقوة لا تعبأ بحلفائها إن لم يلتزموا حرفيًا بإملاءاتها.
أما الشعوب، فهي تشاهد وتسجل وتتعلم، ولن تنسى من وقف في وجه الاحتلال ومن انحنى له.
اقرأ أيضًا : ماذا يخفي ملك الأردن وراء ضجة “خلية المقاومة”؟
اضف تعليقا