لا يخفي ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” رغبته في تغيير بلاده. ومنذ أن بدأ تركيز السلطة في يده عام 2015، قام بتسويق نفسه للجمهور المحلي والدولي كقوة دافعة نحو الحداثة، حيث أعلن أن أجندته تستهدف التحرير الثقافي والإصلاح الاقتصادي. وفي 2016، أوجز ثورته المحتملة في إصدار “رؤية 2030” للمملكة العربية السعودية، وهي خطة طموحة لجعل المملكة “قوة استثمار عالمية” و”بوابة إلى العالم”.

ويقع تطوير “بنية تحتية رقمية متطورة” في قلب رؤية “بن سلمان”. وعلى الرغم من أن العديد من مقترحاته لا تزال غير محققة؛ حيث لم تتجسد بعد المدن المستقبلية الموعودة، إلا أن هاجس ولي العهد بالتكنولوجيا أحدث بعض التغييرات المهمة. إذ قام بإصلاح العديد من مؤسسات الدولة من أعلى إلى أسفل، وأنشأ “حلولا إلكترونية حكومية” لخدمات مثل رسوم المحاكم، والتبرعات الخيرية، والرعاية الصحية، وسجلات السفر.

وجلب التحول نحو “الحكومة الإلكترونية” مزيدا من الكفاءة المرحب بها للقطاع العام البطيء في المملكة. وتفتخر الحكومة بأن “مِراس”، وهي واجهة لبدء الأعمال التجارية، قلصت وقت الانتظار لبعض الخدمات المالية من 81 يوما إلى 24 ساعة، في حين يمنح تطبيق “أبشر”، التابع لوزارة الداخلية، المواطنين إمكانية الوصول إلى 130 إجراءً حكوميا من خلال هواتفهم. ومع وجود عدد كبير من الشباب؛ حيث يقع نحو 70% من السعوديين دون سن الـ35 عاما، والوفرة التكنولوجية، كانت المملكة مستعدة لهذه الرقمنة. ووفقا لبيانات الحكومة، سجل “أبشر” وحده أكثر من 20 مليون معاملة بين منتصف 2015 وأغسطس/آب 2018.

 

ضريبة التكنولوجيا

وعند استخدام هذه التطبيقات، يقوم السعوديون بمبادلة مألوفة؛ حيث يسمحون للحكومة بالوصول إلى معلوماتهم الشخصية وأجهزتهم في مقابل بعض الراحة. لكن على عكس عميل “أمازون” على سبيل المثال، غالبا لا يكون أمام المواطن السعودي الكثير من الخيارات في بعض الرسوم الحكومية التي يتم دفعها الآن عبر الإنترنت فقط، وفقا لصحفي سعودي.

لكن في الوقت الذي أصبحت فيه الحكومة السعودية قمعية بشكل متزايد تجاه المعارضة، ومستعدة بشكل متزايد لاستخدام التكنولوجيا لمراقبة مواطنيها، قد يكون للرقمنة التي ترعاها الحكومة تداعيات خطيرة على حقوق الشعب السعودي.

وفي الوقت الحالي، لا يزال الكثير من السعوديين متحمسين للراحة التي تقدمها الخدمات الإلكترونية. وبشأن ذلك، قال لي شاب سعودي في الرياض مؤخرا إن “الكثير من هذه التطبيقات الجديدة جعلت الحياة أسهل كثيرا. وبالنسبة للجزء الأكبر؛ فالناس سعداء حقا بهذا الأمر، ولم أسمع الكثير منهم يطرحون أسئلة حول الخصوصية”. وأشار إلى أن التطبيقات وبوابات الإنترنت قضت إلى حد كبير على أنظمة طويلة من الرشوة والمحسوبية.

وفي الوقت نفسه، تعمل الحكومة السعودية على توسيع قدراتها في مجال جمع البيانات والمراقبة بطرق أقل وضوحا. وفي الأعوام الأخيرة، قامت البلاد بتركيب آلاف الكاميرات وأجهزة المراقبة على طول الأرصفة والطرق وأدخلت برنامج “الحج الذكي” لإدارة وتتبع ملايين الحجاج سنويا. كما نشرت برامج الاستخبارات الأمريكية لفحص وتصنيف مواطنيها، واشترت “معدات اعتراض الاتصالات السلكية واللاسلكية” بريطانية الصنع، التي تقدر قيمتها بملايين الدولارات. كما تم اتهامها، إلى جانب الإمارات باستخدام برامج تجسس إسرائيلية لاستهداف الهواتف والحواسيب الشخصية للمدنيين السعوديين.

 

إجراءات قمعية

وجاءت هذه الإصلاحات التقنية متزامنة أيضا مع مجموعة واسعة من الإجراءات القمعية، التي قادها ووجه إليها ولي العهد أيضا، لإسكات الناشطين والمعارضين والمثقفين عبر الطيف السياسي. وفي الأعوام الـ3 الماضية وحدها، اعتقلت السلطات السعودية أو احتجزت مئات المواطنين، من الناشطة في مجال حقوق المرأة “لجين الهذلول” إلى المعتدلين الدينيين مثل “سلمان العودة”، الذي يواجه حاليا عقوبة الإعدام. وكان الصحفي “جمال خاشقجي”، الذي تم قتله في القنصلية السعودية بإسطنبول،أكتوبر/تشرين الأول 2018، فر من البلاد في وقت سابق هربا من هذا القمع.

وفي هذه الحملة، اعتمدت الدولة السعودية بشكل كبير على تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين. ورغم أن مقتل “خاشقجي” كان، بكل المقاييس، يشبه مذابح القرون الوسطى، إلا أن هناك أدلة على أن الحكومة السعودية استخدمت برامج تجسس متقدمة لتعقبه قبل وقت طويل من ارتكاب الجريمة. ومنذ مقتله، أشارت تقارير عديدة إلى أن زملاءه السابقين والعاملين تعرضوا لجهود مماثلة.

ويعد “إياد البغدادي” واحدا من هؤلاء المستهدفين. وعمل “البغدادي” مع “خاشقجي” في مشاريع تروج لصحافة عربية مجانية، ويعيش الآن في النرويج. ويقول “البغدادي”، وهو ناشط على الإنترنت ومبرمج كمبيوتر، إن جهود رقمنة الحكومة السعودية تكشف عن اتجاهات خطرة، قائلا: “عموما، يحب الناس أن يقولوا إن التكنولوجيا ليست جيدة أو سيئة في حد ذاتها، لكن إذا قمنا بالتركيز، سنرى أن هناك فرقا بين التكنولوجيا التي تعمل على إضفاء الطابع اللامركزي، والتكنولوجيا التي قد تعمل على تركيز السلطة مثل التنقيب عن البيانات أو الذكاء الاصطناعى. وتهتم الحكومة السعودية جدا بهذه الأخيرة؛ فهي تتيح لهم تحليل المعارضين والحركات الاجتماعية ومراقبتها وحتى التغلب عليها”.

ويستنتج الكثير من السعوديين استنتاجات مماثلة حول أهداف حكومتهم من الرقمنة. وأبدى مهني سعودي، رفض الكشف عن هويته في هذا المقال لأنه يخشى أن يتسبب ذلك في مشكلة له، قلقه من مغازلة “بن سلمان” للحكومة الصينية. وقال: “أعتقد أنه معجب بالطريقة التي ينمي بها الصينيون اقتصادهم، وفي نفس الوقت الحفاظ على سيطرة مشددة على الشعب”. وأضاف: “أعتقد أنه يرغب في تقليد تلك الحالة البوليسية”.

واستخدمت الحكومة السعودية بالفعل التطبيقات الحكومية والبنية التحتية للاتصالات وحملات التواصل الاجتماعي من أجل تحقيق أهداف قمعية. وفي وقت مبكر من 2012، كانت وزارة الداخلية السعودية تستخدم مزيجا من تقنية التتبع والرسائل النصية لمراقبة المواطنات الإناث، وتنبيه “الأوصياء” الذكور إلى مكان وجودهن. وفي وقت لاحق، سمح تطبيق “أبشر” للرجال بممارسة امتيازات “الوصاية” للسيطرة على حركة أفراد الأسرة من الإناث، فضلا عن تقييد وصولهن إلى العديد من الخدمات المالية والقانونية.

وفي 2017، حرضت وزارة الداخلية السعوديين على استخدام الوسم الذي ترعاه الحكومة “#كلنا_أمن” والتطبيق المتربط به للإبلاغ عن المنتقدين للدولة. وفي العام نفسه، رفعت الحكومة حظرا دام أعواما على مكالمات “سكايب” و”واتساب”، لكنها أعلنت أنه سيتم مراقبة جميع المكالمات. وزادت الحكومة أيضا من استخدام القياسات الحيوية، بما في ذلك متطلبات جديدة دخلت حيز التنفيذ في 2016 لجمع بصمات الأصابع أثناء عمليات شراء بطاقات الهواتف الجوالة.

ومع ذلك، على الرغم من التطورات الرقمية السريعة، لا يزال “بن سلمان” بعيدا عن تحقيق أي من أهدافه الكبيرة. ومع حجم المملكة الكبير، ومعدل تطورها غير المتكافئ، يبدو أن إصلاحه الاقتصادي والثقافي والتكنولوجي المقترح للبلاد من المحتمل أن يستغرق وقتا أطول بكثير مقارنة بجيرانه الإماراتيين، إذا ما نجح على الإطلاق.

وعلى الرغم من أن الرقمنة في المملكة تثير المخاوف بشأن سوء المعاملة المحتمل، فقد توفر للمواطنين فرصا جديدة للعمل والإبداع والمقاومة. وتمنح العديد من البرامج المهنية، والحاضنات التي ترعاها الحكومة، الفرصة للمشاركين لتطوير مهاراتهم في قطاع التكنولوجيا؛ حيث سمحت واجهة “أبشر” للعديد من النساء باختراق حسابات أولياء أمورهن لإصدار وثائق سفر لهن، ما سمح لهن بالهرب من سوء المعاملة. ورغم الرقابة الشديدة، فربما يسمح التوسع، الذي تموله الدولة للبنية التحتية للإنترنت فائق السرعة والتعليم العالي المتمركز حول التكنولوجيا، بزرع بذور الجيل التالي من المقاومة. ولطالما كانت التكنولوجيا ضرورية للنشاط في السعودية، ومن المرجح أن تظل على قمة أدوات المعركة في مجال حقوق الإنسان في المملكة لأعوام قادمة.