لا يبدو –في الوقت الحالي- أن ثمة فصيل أو تيار أو حركة أو حزب أو مجموعة ناشطة لديها إرادة حقيقية عملية لأن تكون فاعلة في المشهد السياسي في مصر، وتكون قادرة على التعبير عن مظالم الناس ومصالحها، وكذلك أن تبتكر أسلوبا مناسبا لتحدي النظام والضغط عليه، وحين تغيب تلك الإرادة الحقيقية فمن العبث مناقشة التفاعل مع أي حدث تفصيلي سواء تعلق بتدهور الاقتصاد، أو بخيانة الأرض وبيعها، أو بالتمادي في الاعتقالات الوحشية والتعذيب، أو التصفيات والإعدامات، أو حتى في فكرة التفاعل مع انتخابات ٢٠١٨ بالمقاطعة أو المشاركة الفعّالة، هذا لا ينفي أن هناك الكثير من المجموعات التي لديها إرادة أو التي تحاول تحدي النظام بالفعل حاليا لكنها بحاجة إلى المزيد من الوقت لاكتمال قدراتها الفكرية أو العملية.

بدون الحديث عن تخيلات أو أمنيات، فالحقيقة هي ما يجب أن نعرفها ونقف أمامها كما هي، لا أن نعيد تجميلها وتزيينها وتزويرها من أجل مزيد من التخدير و”التحوير”، أتحدث هنا عن الإرادة الحقيقية وليست المتوهمة أو الرغبة العامة، كما يُفرّق أهل اللغة بين الرجاء والتمني، فالرجاء ما صاحبه عمل وإلا فهو أمنية، فالحديث عن الرغبة المرجوة يختلف تماما عن الحديث عن الأماني والأحلام التي يمكنها أن تبقي في الخيال بلا سقف أو زمن.

الإرادة الحقيقة تتلخص في تحديد وصف للمرحلة الحالية وما تحتاجه هذه المرحلة، وكذلك تحديد جوهر مشاكل الناس بشكل عملي، والحاجة العاجلة لوجود مؤسسات تدرس هذا الواقع وتحلله وتصل به لنتائج ممكنة، فمشاكل المجتمع المصري الاجتماعية والاقتصادية ضخمة للغاية، وهي نتيجة مباشرة للحكم السياسي البوليسي القمعي عبر عقود طويلة، وهذه المشاكل لا تحتاج مؤسسات استهلاكية تعيش وتقتات على وصف سطحي للمشاكل والأزمات بل تحتاج مؤسسات إنتاجية تحلل بعمق، وتفسر، وتضع البرامج والمشاريع والحلول، وتهيئ الكوادر المناسبة؛ لتخوض نضالا حقيقيا عمليا -عن وعي وعلم-  وليس وعيا مسموما ينتظر رخصة من النظام ليفسح لهم المجال ليثوروا عليه، أو ينتظر مُخلّصا مجهولا أو ملهما موهوبا.

نضال أم وجاهة سياسية:

أول علامات غياب تلك الرغبة الحقيقية هو غياب التوصيف الدقيق الواضح للمرحلة الحالية، هل هي مرحلة نضال وكفاح أم مرحلة مشاركة ووجاهة وامتيازات سياسية؟، هل نحن بانتظار حدث ما لا نعرفه، يخلصنا ويُحدِث تغييرا ثم نتقدم لمحاولة مواكبته (كما فعل كثيرون مع يناير ٢٠١١)؟، أم أننا في مرحلة نضال حقيقي ضد نظام الظلم والاستبداد والخيانة والقمع بأجهزته وأذرعه وأساليبه، فإذا كانت الأولى فالانتظار سيد الموقف، وإذا كانت الثانية فأين ابتكار أساليب النضال الممكنة ضد ممارسات النظام القمعية وضد أجهزته وشبكاته القمعية التي تسيطر وتهمين على كل المقدرات وتشيع الخوف والقتل والتدمير والإرهاب.

 

بين الخوف أو الثورة برخصة أو الانتظار:

بالحديث عمن هم داخل مصر -من حركات ومجموعات شابة كانت يوما ما في زهرة فاعليتها مع يناير ٢٠١١- فقد أصبحوا أسرى الخوف الذي رفع حاجزه النظام البوليسي، وهم من جانب لديهم كل العذر لأن الكلفة عالية وباهظة، ومن جانب آخر فهم في مرحلة إخفاق لعدم قدرتهم على ابتكار وسائل أخرى فعّالة تناسب الظرف الحالي.

وبالحديث عن الأحزاب والحركات والمجموعات التقليدية داخل مصر فقد أصبح قرارها محكوما بسقف القادة والمتحكمين التقليديين، فمنهم من أصبح غاية أمله رخصة من النظام ليثور عليه ويعارضه، ومنهم من أصبحت وظيفته هي اختبار السقوف والخطوط الحمراء ليحدد شكل تصريحاته وبياناته، ومنهم من ينتظر قوة تراهن عليه وتختاره لتبعث فيه حياة غير التي يعيشها.

أما عن أكبر من يدفع ضريبة القمع والقتل والاستبداد والظلم وهي جماعة الإخوان المسلمين بالداخل والخارج فهي بين شباب تغلب عليه الحماسة والعاطفة وسرعة الحركة وإعادة ترميم هياكل تمثلهم -وهو ليس كافيا ليكون لهم قدرة ورؤية يمكنهم تطبيقها وتنفيذها-، أو بين تقليديين لا يرغبون ولا يريدون أن يصارحوا عموم أنصارهم بحقيقة ما يقولوه في غرفهم المغلقة، أنهم لا يملكون من أمرهم شيئا وأنهم ينتظرون من بالسجون ليخرجوا ويقرروا، وبالتالي فهم يحافظون على حد أدني من التصريحات والتكافل ولا يفكرون في طريقة للفعل والتأثير ولو حتى من باب الإعداد والاستعداد وتأهيل الكوادر المناسبة.

 

يحاول الكثيرون بين الحين والحين بعاطفة جياشة وبشكل مستمر أن يسدوا ذلك الفراغ الموحش، إما بخطابات أو هياكل وأساليب تقليدية أو بإعادة تدوير قيادات تقليدية -لا تمتلك وعيا أو فهما أو قدرات حديثة مناسبة للصراع الحالي-، أو آخرون يفكرون في إنتاج وثائق وديباجات؛ تمنحهم بعض الأمل أو بعض اللافتات التي تجعل لهم صوتا يتحدث باسمها.

 

نقطة البداية هي الجمع بين الحماسة والعاطفة، وبين الفهم والعلم المناسب للصراع الحالي وأساليبه، وبين توفير الموارد المطلوبة وشبكات الدعم المناسبة، فالمستبدون فاشلون في إدارة الدولة لكنهم ناجحون في السيطرة بالقوة والقمع -وحول هذه الهيمنة عقولٌ تُسخّر علمها وخبراتها في دعم النظام الاستبدادي القمعي ليكون أكثر قدرة على الاستمرار ويحققوا من خلاله منافعا ومصالحا خاصة-، فلا أقل من أن نواكب العقول والخبرات والقدرات لنتميز بالفعل لا بالكلام.

 

خلاصات لنقطة البداية:

  • أن نعترف بشكل واضح أننا في مرحلة نضال وكفاح ضد نظام الاستبداد والقمع والخيانة، والكفاح والنضال ليس مرحلة انتظار لمُخلّصٍ مجهول، وليست مرحلة للتجهز لوزارات أو مناصب سياسية.
  • أن هذا النضال يحتاج تصورا ورؤية عامة، ويحتاج أيضا مشروعا مرحليا عمليا، وقدرات تجعل النضال ممكنا -غير محصور في التصريحات والبيانات-، ولن يكون هذا ممكنا بدون تصورات لكيفية الضغط والإجبار، فالتغيير لن يكون هبة ولا هدية.
  • هذا التصور والمشروع المرحلي يُرجى منه تحقيق غايات وأهداف سياسية محددة على الأرض يمكن تصورها وتصور تحقيقها بشكل مرحلي.
  • هذه الأهداف السياسية وتصورات الضغط والنضال يمكنها أن تستخدم تكتيكات كثيرة ومتنوعة ومتعددة، ولا يمكنها أن تكون محصورة في شكل واحد.
  • للوصول لما سبق نحتاج اختيار مشاريع أولية غير مباشرة يمكنها أن تُحيي الفاعلية مرة أخرى، بأنماط جديدة مختلفة من الحركة في الداخل والخارج، يمكنها أن تركز على قضايا قابلة للإلهام وكسب الأنصار، وتسعى لتحقيق نجاحات صغيرة في مدى قريب، ويمكنها أن تمثل تجربة في تكامل جهود شبكات العلاقات المختلفة -الإعلامية والمالية والبحثية وغيرها-، ولدينا من معين الأزمات والمظالم الحقوقية العادلة الكثير مما يحتاج عقولا تُنتج منها حركات وحملات فعّالة؛ تمثل ضغطا ذكيا ومركزا وناجحا في نقاط بعينها بالداخل والخارج؛ لتكون تمهيدا لحركة نضالية أوسع ضد أجهزة القمع والظلم والاستبداد.

ياسر فتحي

الآراء الواردة في التدوينة تعبر فقط عن رأي صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “العدسة“.