في تحول عسكري وسياسي مفصلي، أعلن الجيش السوداني، سيطرته الكاملة على ولاية الخرطوم، بعد طرد قوات الدعم السريع التابعة لمحمد حمدان دقلو “حميدتي” من آخر معاقلها في جنوب وغرب مدينة أم درمان.
مراقبون اعتبروا ذلك انتصاراً للشعب السوداني وخطوة نحو استعادة وحدة الدولة التي سعت قوى خارجية، في مقدمتها الإمارات، إلى تمزيقها ودعم حالة الفوضى عبر وكلائها المسلحين.
الخرطوم تحت سيطرة الجيش بالكامل
في بيان متلفز، أعلن الناطق باسم القوات المسلحة السودانية، العميد نبيل عبد الله، أن “ولاية الخرطوم خالية تماماً من أي وجود لعناصر مليشيا آل دقلو الإرهابية”، واصفاً استعادة الولاية بأنها “تطهير للعاصمة الوطنية من دنس المتمردين”.
وجاء الإعلان بعد معارك ضارية، خاصة في منطقة “صالحة” جنوبي أم درمان، التي كانت تُعد آخر معاقل “الدعم السريع” في الولاية، حيث بث عناصر من الجيش مشاهد من داخل المنطقة، توثق استيلاءهم على مخازن أسلحة وطائرات مسيّرة وأجهزة تشويش متقدمة، ما يفضح مدى الدعم العسكري الذي كانت تتلقاه هذه الميليشيا، وفقاً لمصادر عسكرية.
وفي وقت سابق من يوم الثلاثاء، أعلن الجيش تقدمه جنوباً وغرباً في أم درمان، وصولاً إلى استعادة السيطرة الكاملة على الولاية، التي تشمل مدن الخرطوم وبحري وأم درمان، إضافة إلى منطقة شرق النيل، في خطوة اعتُبرت رمزياً وعملياً انتصاراً على مشروع “الدعم السريع” في قلب الدولة السودانية.
انتصار للشعب السوداني.. وخذلان للمشروع الإماراتي
لا يقتصر الانتصار في الخرطوم على البعد العسكري فحسب، بل يمثل لحظة سياسية فارقة في معركة السودان ضد مشروع التفتيت المدعوم خارجياً، وبالأخص من دولة الإمارات، التي كانت خلال السنوات الأخيرة -وفق تحقيقات وتقارير غربية- الممول الأبرز لقوات “الدعم السريع”، سواء بالأموال أو العتاد.
فمنذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، أظهرت عدة تقارير استخبارية وصحفية (بينها تحقيقات لصحيفة الغارديان البريطانية) أن الإمارات وفّرت خطوط إمداد لوجستية لقوات “حميدتي”، عبر نقل السلاح من ليبيا وتشاد وحتى من مستودعاتها في إريتريا، فضلاً عن الدعم السياسي في المحافل الدولية.
إلا أن سقوط “الدعم السريع” في الخرطوم اليوم، كشف زيف رهانات أبو ظبي، التي سعت إلى تمكين شخصية غير منتخبة مسلحة من حكم البلاد، مستنسخة سيناريو “حفتر” في ليبيا، و”ابن زايد” في الإمارات نفسها: قائد عسكري بلا شرعية، يحكم بالقوة ويحظى بغطاء إقليمي وغربي.
الرسالة التي بعث بها الشعب السوداني، من خلال صموده في وجه جرائم الحرب والتهجير والقتل الممنهج، هي أن لا قوة قادرة على كسر إرادة أمة، حتى لو تحالفت ضدها مليشيات مدعومة من أغنى أنظمة العالم. الخرطوم استعادت نبضها الوطني، والدولة استعادت رمز وحدتها، وهو أمر أبعد ما يكون عن مجرد تقدم عسكري، بل انتصار لإرادة الاستقلال والمقاومة.
المشهد الميداني والسياسي: دعم سريع يتقهقر وأزمة تتعقد
وفق بيانات الأمم المتحدة والسلطات السودانية، فإن الحرب التي شنها “الدعم السريع” تسببت في مقتل أكثر من 20 ألف شخص، فيما قدرت دراسة لجامعات أمريكية عدد الضحايا بـ130 ألف قتيل، وهو رقم صادم يكشف حجم الكارثة التي حلت بالسودان، بدعم إماراتي معلن ومخفي.
ومع الانهيار الكبير لقوات “الدعم السريع” في الخرطوم، باتت هذه المليشيا محصورة في أجزاء من شمال وغرب كردفان، وجيوب في جنوب كردفان والنيل الأزرق، بالإضافة إلى معظم ولايات دارفور، والتي تشهد حرب إبادة وصراعات قبلية غذّتها المليشيا المسلحة، في تكرار لمشاهد دموية عرفها السودان في بداية الألفية.
رغم ذلك، فإن الجيش السوداني يواجه تحديات كبيرة، في مقدمتها تثبيت الأمن في الخرطوم بعد طرد “الدعم السريع”، ومنع محاولات التفجير والتخريب التي قد تلجأ إليها المليشيا للانتقام أو لزعزعة الاستقرار.
كما أن المناطق الأخرى التي لا تزال خاضعة لسيطرة قوات “حميدتي”، خاصة دارفور، تستدعي استراتيجية عسكرية وسياسية طويلة النفس لاستعادتها، دون الوقوع في فخ الانتقام الجماعي أو الاستهداف العشوائي الذي قد يعيد إنتاج الدمار.
هل انتهت الحرب فعلاً؟
الإعلان عن السيطرة الكاملة على ولاية الخرطوم يُعد دون شك نقطة مفصلية في المعركة، لكن لا يمكن الجزم بأن الحرب انتهت فعلياً. فـ”الدعم السريع” ما زالت تملك نفوذاً في مناطق واسعة غرب البلاد، خاصة في دارفور، وتستفيد من البيئة الجغرافية والقبلية المعقدة هناك، فضلاً عن دعم استخباري وتمويلي من أطراف إقليمية.
كما أن الإمارات، التي تلقت ضربة موجعة بسقوط مشروعها في العاصمة، قد تسعى عبر أدوات أخرى إلى إطالة أمد الفوضى، سواء عبر تجديد الدعم للميليشيات في الأطراف، أو عبر تفعيل أذرع إعلامية وإغاثية بهدف تشويه صورة الجيش أو إحراج السلطات السودانية الجديدة.
لكن في المقابل، فإن الرسالة الواضحة التي خرجت من الخرطوم اليوم، هي أن مشروع حميدتي وأبو ظبي في السودان تلقى ضربة قاصمة، وأن وحدة الدولة لا تزال ممكنة، إذا ما توفرت الإرادة الشعبية والعسكرية، وتم عزل القوى الخارجية التي تتاجر بدماء الشعوب باسم “الاستقرار”.
خاتمة: الخرطوم تُطهّر.. لكن المعركة لم تنتهِ
سيطرة الجيش على الخرطوم تمثل لحظة استعادة للعاصمة من يد المشروع الانقلابي الميليشياوي، وانتصاراً معنوياً كبيراً لشعب عانى طويلاً من القتل والنزوح والجوع. لكنها أيضاً بداية لمرحلة جديدة، لا تقل أهمية عن القتال: إعادة بناء الدولة، ومحاسبة المجرمين، وإغلاق الباب أمام الأطماع الأجنبية في الجغرافيا والقرار السياسي السوداني.
اقرأ أيضًا : تقدّم للجيش في أم درمان.. والإمارات تسعّر الحرب بدعمها للدعم السريع
اضف تعليقا