في محاولة يائسة للفت أنظار الشعب الأردني عن تخاذل وصمت وتآمر النظام عما يجري من إبادة في قطاع غزة ومع تعاظم الحراك الشعبي نصرة لغزة وقمع النظام الأردني لهذا الحراك واعتقال النشطاء والحكم عليهم لسنوات، منهم أطفال فرضت عليهم كفالات وصلت حد 50 ألف دينار، قام النظام الأردني خوفا من اتخاذ الحراك السلمي منحى أكثر قوة بنسج قصة لشيطنة هذا الحراك، بأن المجموعات التي تقوده مرتبطة بالخارج وتتلقى أموالاً وتعليمات من الخارج، لتصنيع أسلحة موحيا أنها للاستخدام داخل الأردن، وقد نشر اعترافات مجتزأة لأشخاص دون أن يشير أن هذه الأسلحة كان مخططًا إرسالها للضفة الغربية بقصد استخدامها ضد العدو الإسرائيلي.
هذه الحقيقة كشفت عنها محاضر التحقيق ولوائح الاتهام واعترافات المتهمين، لكن التسويق الإعلامي يوضح بما لا يدع مجالًا للشك أن كل ما جرى هو تلاعب أمني لإعادة هندسة صورة الحراك الشعبي وتحويله إلى مصدر تهديد، وعمل تخريبي لأجندات مشبوهة.
الصورة الحقيقية الكاملة
لجأ النظام الأردني إلى وصفته الأمنية المفضلة: اختراع خلية، فبركة رواية، بث اعترافات مجتزأة، واتهام بـ”الإرهاب” موجه هذه المرة لا ضد عدو خارجي، بل ضد أبناء الشعب الأردني أنفسهم.
وفي سيناريو مكشوف يتكرر كلما زادت أصوات المعارضة، خرجت الحكومة لتعلن في منتصف أبريل 2025 عن تفكيك خلية مسلحة تتبع “المقاومة الفلسطينية”، تم ضبطها أثناء تصنيع صواريخ، زاعمة أنها كانت تنوي تنفيذ أعمال “إرهابية” داخل الأردن.
لكن الحقائق، التواريخ، والمستندات الرسمية، كل ذلك يكشف أن القصة ليست قضية أمن وطني، بل طريقة قمع، وتخويف، ومحاولة ترويج دعائي رخيص لإقناع الأردنيين بأن المقاومة الفلسطينية تهددهم لا الاحتلال، وبأن العدو في الداخل لا على حدود فلسطين.
السؤال الأول الذي يفرض نفسه: لماذا الآن؟
بحسب تصريحات الجهات الرسمية، فإن التحقيقات في هذه الخلية تعود إلى عام 2021، وبعض عناصرها تم تتبعهم منذ سنوات، وتم اعتقالهم في أوقات مختلفة قبل أشهر طويلة، فلماذا إذن لم تُعلن القضية حينها؟ ولماذا يُفصح عنها الآن، وبكل هذا الصخب، وسط مقاطع فيديو وصور و”اعترافات” تم تسويقها بطريقة إعلامية بائسة؟
الجواب واضح: لأن النظام يخشى من تصاعد الحراك الشعبي المناصر لغزة، ولأن محاكمته الشعبية باتت علنية، ولأن الشارع الأردني – الذي خرج بمئات الآلاف – لم يعد يحتمل صمتًا رسميًا، وتواطؤًا دبلوماسيًا، وقمعًا داخليًا، في ظل إبادة تُرتكب يوميًا على يد الاحتلال.
والأخطر، أن التوقيت يتزامن مع أحكام قاسية ضد نشطاء فلسطينيين وأردنيين بينهم أطفال، تم اعتقالهم بسبب مشاركتهم في احتجاجات سلمية أمام سفارة الاحتلال، في هذه اللحظة، جاء الإعلان عن “الخلية” كجزء من حملة شيطنة ممنهجة ضد كل من يدعم غزة أو ينتمي فكريًا للمقاومة.
القصة الحقيقية خلف الخلية
بمراجعة وثيقة لائحة الاتهام الصادرة عن محكمة أمن الدولة الأردنية في القضية التحقيقية رقم 26073/2024، والتي حملت توقيع المدعي العام عمر الفريحات، يتضح أن كامل التهمة تدور حول عملية لنقل عدد من الصواريخ إلى الضفة الغربية وليس إلى الداخل الأردني.
بشكل واضح، تنص الوثيقة على أن المتهم أحمد سليمان عليش بركات ارتبط بعلاقة مع شخص يُدعى “صالح الحصان”، والذي دعاه للذهاب إلى تركيا للقاء عناصر من “المقاومة الفلسطينية”، وهناك تلقى تدريبات على العمل الاستخباري والأمني، وبعد عودته للأردن بدأ في نقل صواريخ وتخزينها في مواقع داخل المملكة، تمهيدًا لإرسالها إلى الضفة الغربية لاستخدامها ضد الاحتلال .
وفي أخطر تفاصيل الوثيقة، نقرأ أن الصواريخ التي تم نقلها كانت من نوع كاتيوشا، ولا تحتوي على نظام توجيه، وهي مخصصة للاستخدام ضد أهداف إسرائيلية. لم يرد في أي فقرة نية لاستهداف الأردن أو تنفيذ هجوم داخل حدوده.
بل إن المحققين بعد التحقيقات أقروا بأن المتهمين لم ينفذوا أي عمل داخل الأردن، ولم يُضبط بحوزتهم أي أدوات تفجير في الداخل، وكل ما تم هو التنسيق اللوجستي لنقل السلاح إلى جهة خارجية معادية لإسرائيل، وليس للأردن .
الملك يُمهّد والآلة الأمنية تنفّذ
قبل الإعلان الرسمي عن القضية، أدلى الملك عبد الله الثاني بتصريحات تحذيرية عن “جهات خارجية تموّل الحراك الشعبي”، وعن “محاولات اختراق للساحة الأردنية عبر أجندات غير وطنية”.
كان ذلك التمهيد الإعلامي، الذي جاء في لقاء متلفز، هو إشارة الانطلاق للأجهزة الأمنية كي تطلق رواية “الخلية” وتُسوقها للداخل على أنها تهديد للأردن، بينما كان الهدف الحقيقي: تخويف الناس، وإسكات الأصوات، وتشويه رموز المقاومة.
محاولة تبرئة الاحتلال وتلويث المقاومة
في محاولة للتلاعب بالوعي الجمعي، يُراد من هذه الحملة أن يُقال: “انظروا، من يدعم غزة يصنع الصواريخ، ويهدد وطنكم، ويستهدف استقراركم”.
أي أن الاحتلال ليس هو العدو، بل من يقاومه هو الخطر الحقيقي! وتم دعم هذا الخطاب باعترافات مجتزأة لمعتقلين، تم بثها عبر الإعلام الرسمي بطريقة هوليوودية فجة، دون أي سياق، ودون حتى الإشارة إلى أن هؤلاء حاولوا دعم المقاومة، لا ضرب أمن الأردن.
وهكذا، نُقلت الصورة من مقاومين يعملون لنقل السلاح للضفة المحتلة، إلى “إرهابيين يهددون عمان”، فقط لتبرير القمع والتخويف.
بالطبع، إليك الفقرة المضافة بشكل منسجم مع بنية التقرير الحالية، وتوسّع في السياق السياسي الإقليمي وتحليل الخطاب الرسمي الأردني، وتربطه بنموذج عربي مكرر في شيطنة النشطاء:
النظام الأردني.. نسخة من أنظمة القمع العربية حين يتعلق الأمر بإسرائيل
لا يبدو ما فعله النظام الأردني في التعامل مع المعتقلين مؤخرًا حالة شاذة أو استثناء في المنظومة العربية الرسمية، بل هو امتداد مباشر لمدرسة ديكتاتورية متكاملة اعتادت على تجريم النشطاء حين يرفعون صوتهم ضد الاحتلال، وغض الطرف أو حتى التعاون مع الجلاد حين تُسفك دماء الفلسطينيين.
ما جرى في الأردن يُشبه إلى حد التطابق ما تفعله سلطة رام الله، التي طاردت كل من يفكر بدعم المقاومة في الضفة الغربية، وسجنت أبناء حركة حماس والجهاد، ومارست التنسيق الأمني لحماية المستوطنين، وشاركت بفعالية في قمع كل محاولة لتحريك الشارع الفلسطيني في وجه الاحتلال.
وفي مصر، لا يخفى على أحد كيف تم شيطنة كل ناشط دعم المقاومة أو تحدث عن تحرير القدس، وكيف تحوّلت غزة إلى عدو ضمنيًا في إعلام النظام، وتم تصوير أي دعم لحماس وكأنه دعم لـ”الإرهاب”، بل تم تجريم إرسال المساعدات، وإغلاق معبر رفح في وجه الجرحى، بينما كانت الدبابات الإسرائيلية تدمّر البيوت في الشجاعية وخان يونس.
النظام الأردني، إذن، يسير على نفس الطريق: لا مشكلة لديه مع الاحتلال، لكنه يرى كل من يقاومه “إرهابًا”، وكل من يمد يده إلى غزة “متطرفًا”، وكل من يصنع صاروخًا ضد إسرائيل “مجرمًا”.
الشباب المعتقلون.. ضمائر حية لا مشاريع تخريبية
ومع تصاعد الأصوات، بات من الواضح أن الرواية الرسمية تفككها الوقائع تباعًا، فحتى الجهات القضائية، رغم كل ما قُدّم لها، لم تجد ما يثبت أن هؤلاء الشبان شكّلوا “منظمة إرهابية”، أو سعوا لضرب الداخل الأردني أو للمساس بأمن الأردن بأي سوء.
بل على العكس، كل ما في الملف يؤكد أن هؤلاء – وإن حمل بعضهم انتماءً سياسيًا أو فكريًا – فإن دافعهم الأساسي كان الدم الفلسطيني المسفوك يوميًا، والغضب المتراكم مما يجري في غزة والضفة الغربية.
هؤلاء لم يكونوا مخربين، بل ضمائر حية انفجرت في وجه العجز الرسمي. لم تكن لديهم خطط لتفجير عمّان، بل كانوا يُفكرون في كيفية إيصال سلاح بدائي إلى الضفة الغربية، ليقاوم الجنود الذين يقتحمون جنين ونابلس ويُحاصرون غزة. وهذه حقيقة أكّدتها الوثائق الرسمية ومحاضر التحقيق، واعترافات المعتقلين التي لم تُبثّ للرأي العام إلا بعد اجتزاء وتحريف.
فرحة الإعلام الصهيوني: الأردن “يحرس الحديقة الخلفية”
ولأن الصراحة تُقال في تل أبيب أكثر مما تُقال في عمّان، فقد هلّلت وسائل الإعلام الإسرائيلية لهذه الاعتقالات. اعتبرتها “دليلًا على نضج العلاقات الأمنية”، ورأت فيها تأكيدًا على أن النظام الأردني يقوم بوظيفته الموكلة إليه بأمانة: حماية الحدود الشرقية للاحتلال، وتجفيف منابع الدعم الشعبي للمقاومة، حيث قوبل الإعلان الأردني عن تفكيك خلية مرتبطة بحركة “حماس” بترحيب ملحوظ في وسائل الإعلام الإسرائيلية، التي رأت في الخطوة تأكيدًا على الدور الأمني الحيوي الذي تلعبه عمّان في تأمين الحدود الشرقية للاحتلال.
قناة i24NEWS الإسرائيلية، في تغطيتها الموسعة، اعتبرت العملية تحركًا استباقيًا مهمًا ضد نفوذ حماس في الأردن، وركّزت على البعد الإقليمي للملف، مشيرة إلى أن الخطوة الأردنية تأتي ضمن توجه عربي أوسع لتحجيم الحركة وتقييد امتداداتها خارج غزة والضفة.
القراءات الإسرائيلية لهذه الحادثة لم تُخفِ ارتياحها، بل أبرزت أن الأردن يُثبت مجددًا التزامه بالتنسيق الأمني الإقليمي، ويؤدي دورًا محوريًا في حماية ما تسميه تل أبيب “الجبهة الهادئة من الشرق”.
وهكذا، تتعامل تل أبيب مع العملية كجزء من معادلة أمنية أوسع تُطمئن الاحتلال بأن التحركات الشعبية في الأردن لن تتحول إلى خطر حقيقي، ما دام النظام يضبط المشهد ويقمع أي محاولة دعم فعلي للمقاومة الفلسطينية
الإمارات تنفخ في النار وتدفع نحو تصفية ما تبقى من الحياة السياسية في الأردن
لم يكتفِ الإعلام الإماراتي بدعم رواية “الخلية الإرهابية” التي روّج لها النظام الأردني، بل انخرط بشكل مباشر في تأجيج المشهد، مستخدمًا الحدث كذريعة للضغط باتجاه الانقضاض الكامل على جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، وجناحها السياسي “حزب جبهة العمل الإسلامي”، الذي لا يزال يحتفظ بفاعلية واضحة في الشارع الأردني وله نواب في البرلمان.
فبعد أن قام النظام الأردني سابقًا بحل الجماعة ومصادرة ممتلكاتها، بقيت “جبهة العمل الإسلامي” كذراع سياسي شرعي وقانوني، تمثل أحد آخر أشكال التنظيم الحزبي الشعبي في البلاد. وهو ما لا يروق لأبوظبي، التي ترى في أي حضور سياسي للإسلاميين تهديدًا لأجندتها الإقليمية القائمة على تجريم الإسلام السياسي وإعادة هندسة المجتمعات العربية لتكون خالية من الحركات المنظمة.
النظام الإماراتي، وفق مصادر سياسية مطلعة، نجح في اختراق جهاز المخابرات العامة الأردنية، وبدأ منذ سنوات بضخ الأموال في بعض دوائره الحساسة، بهدف التأثير على توجهاته، ودفعه لاتخاذ خطوات تتماشى مع الرؤية الإماراتية، التي ترى في “جبهة العمل الإسلامي” ليس فقط خصمًا أيديولوجيًا، بل عقبة أمام مشروع احتواء الأردن وتحويله إلى منصة صامتة تخلو من المعارضة الجادة.
اليوم، تسعى الإمارات إلى استثمار حادثة “الخلية” في إطلاق حملات اعتقال واسعة، ومحاكمات سياسية، وتحقيقات متتالية، تمهيدًا لحل الحزب أو تجميد نشاطه، وإغلاق باب الحراك الشعبي الذي لا يزال يحتفظ بقدر من الحيوية، خاصة في الملفات المتعلقة بالقضية الفلسطينية وغزة.
يبقى السؤال: هل سينصاع النظام الأردني لهذه الضغوط ويكمل ما بدأه؟ هل سيقدم على تصفية آخر حزب فاعل في البلاد، ويقضي على ما تبقى من رمزية المشاركة السياسية، فقط لإرضاء أبوظبي؟ وإذا فعل، فهل يدرك أنه بذلك لا يضرب حزبًا، بل يُسقط مبدأ المشاركة، ويقطع آخر خيوط الثقة مع الشعب؟! وهو التهديد الحقيقي للأمن القومي الأردني.
إن استهداف “جبهة العمل الإسلامي” ليس معركة داخلية فقط، بل حلقة جديدة في مشروع إقليمي يُدار من أبوظبي لتفريغ العالم العربي من أي صوت حر، أو تنظيم شعبي، أو حراك مقاوم.
خيوط المكيدة انكشفت… ومَن باع القضية لن يشتري شرفها لاحقًا
في هذه المسرحية السياسية-الأمنية، خُدع البعض في البداية. لكن الأوراق الرسمية، والمعلومات الموثقة، وتوقيت الإعلان، وسياق المنطقة، كلها الآن تقول شيئًا واحدًا:
الخلية لم تكن “إرهابية”، بل خيطًا من ضمير يقاوم، والمستهدف لم يكن الأردن، بل إسرائيل.
والمجرم الحقيقي ليس من يهرّب صاروخًا للضفة، بل من يحمي السفير الإسرائيلي في عمان، ويقمع أبناء وطنه وهم يهتفون لفلسطين.
كل من يقف في وجه الاحتلال هو اليوم في مرمى الدولة العميقة، وكل من يهتف لفلسطين أصبح هدفًا للاعتقال، وكل نظام يجعل من حماية إسرائيل مهمته الأولى… فقد أعلن عن نفسه طرفًا في المعركة، ولن ينسى له التاريخ موقفه.
اضف تعليقا