تسللت شبكة إلكترونية غامضة، مرتبطة بدولة الإمارات، إلى المشهد الرقمي الصومالي عبر عشرات الحسابات الوهمية التي تحمل أسماء محلية وتتنكر بهويات مزيفة. هذه الحسابات لا تهدف إلى الترفيه أو تبادل الأخبار، بل تنفذ حملة استراتيجية مدروسة لإعادة تشكيل الرأي العام الصومالي بما يخدم المصالح السياسية للإمارات في القرن الإفريقي. التحرك يجري بصمت، لكنه مدفوع بأجندة واضحة توظّف أدوات الذكاء الاصطناعي والتلاعب السردي لاختراق الوعي الجمعي وتوجيهه في اتجاهات بعينها.

الذباب الإماراتي يغزو الصومال: اختراق رقمي خفي لتفتيت المجتمع وتوجيه الرأي العام

الذباب الإماراتي يغزو الصومال: اختراق رقمي خفي لتفتيت المجتمع وتوجيه الرأي العام

 

في هذا التحقيق، نسلّط الضوء على خفايا هذه الشبكة الرقمية التي تُدار من خلف الكواليس، ونكشف أساليب عملها، بدءًا من نمط إنشاء الحسابات، مرورًا باستراتيجية المحتوى والتسلل إلى المجتمعات الصومالية، وصولًا إلى الأهداف السياسية المضمرة خلف واجهة الحياد. كما نوضح كيف تُستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي لإنتاج محتوى زائف، ونحلل المخاطر الأمنية والاجتماعية التي يشكلها هذا النوع من التدخل الخارجي على الاستقرار الصومالي ومستقبل وحدته الوطنية.

المنشأ والأنماط الزمنية لخلق الحسابات

تشير البيانات إلى أن إنشاء هذه الحسابات تم على مراحل منظمة، في موجات زمنية مدروسة:

  • نوفمبر/تشرين الثاني 2024: مجموعة من الحسابات بأسماء نسائية عامة ذات طابع صومالي تقليدي.
  • ديسمبر/كانون الأول 2024: موجة جديدة من الحسابات النسائية، لكن هذه المرة مع أسماء عائلية تشير إلى انتماء عشائري معين، في محاولة لاستغلال البُعد القبلي الحساس في الصومال.

ما زالت الشبكة في توسع مستمر، ومن المتوقع إضافة المزيد من الحسابات بمرور الوقت، ما يجعل من الصعب رصدها مبكرًا.

الذباب الإماراتي يغزو الصومال: اختراق رقمي خفي لتفتيت المجتمع وتوجيه الرأي العام

الذباب الإماراتي يغزو الصومال: اختراق رقمي خفي لتفتيت المجتمع وتوجيه الرأي العام

استراتيجية المحتوى: الحياد الزائف

لبناء مصداقية داخل البيئة الصومالية، تعتمد الحسابات على محتوى يبدو “محليًا” وغير سياسي في ظاهره، تُستخدم كغطاء للتغلغل داخل المجتمعات الرقمية المحلية وكسب ثقة المتابعين، قبل تمرير الرسائل الحقيقية لاحقًا، من هذا المحتوى:

  • منشورات إخبارية تتعلق بالحكومة الفيدرالية الصومالية.
  • إشادة بالجيش الوطني الصومالي.
  • صور من المدن والمناظر الطبيعية.
  • صور “سيلفي” (مسروقة غالبًا من مواقع مثل تيك توك أو بينتريست)، إلى جانب عبارات تحفيزية.

الأهداف الخفية وراء الحسابات الوهمية

على الرغم من الطابع الحيادي الذي تتبناه الحسابات المرتبطة بشبكة الذباب الإلكتروني الإماراتية، إلا أن جوهر نشاطها يتجاوز المظاهر البريئة إلى أهداف سياسية واضحة. تسعى هذه الحسابات بشكل منهجي إلى ترسيخ صورة الإمارات كداعم رئيسي للصومال، من خلال الترويج المتكرر لفكرة أن أبو ظبي تساند الحكومة الصومالية وتسهم في استقرار البلاد، مما يضفي شرعية مزيفة على الدور الإماراتي في المنطقة.

https://x.com/deee_luul/status/1923049840348365016?s=48&t=fAN7ASmDPMbrGQ8GRf_ahQ

في المقابل، تُستخدم هذه الحسابات أيضًا لمهاجمة خصوم الإمارات التقليديين، وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين. إذ تنتشر على صفحات هذه الحسابات منشورات نقدية لاذعة تتهم الجماعة بالإرهاب وتهديد استقرار الصومال، وتُستخدم هذه الهجمات كمدخل لتبرير التحالفات الإماراتية مع بعض القوى المحلية والدولية. كما لا تتوانى هذه الشبكة عن التلميح إلى مواقف مناوئة لحركة حماس، في انسجام واضح مع السياسات الخارجية الإماراتية، خاصة في ملف التطبيع مع إسرائيل. وفي السياق ذاته، تظهر أحيانًا منشورات تهاجم السودان أو تقلل من شأن أزماته، بما يتوافق مع مصالح أبو ظبي في إعادة تشكيل توازنات القوة في القرن الإفريقي.

الذكاء الاصطناعي لتزييف الواقع

واحدة من أبرز سمات هذه الحملة الرقمية هي اعتمادها الملحوظ على أدوات الذكاء الاصطناعي في توليد المحتوى، وخاصة المحتوى المكتوب باللغة الصومالية. ورغم الجهود المبذولة لإضفاء طابع محلي على المنشورات، إلا أن المتلقي المدرك يلاحظ بسهولة الأخطاء الفادحة التي تفضح مصدرها الاصطناعي. تتجلى هذه الأخطاء في استخدام عناوين غير دقيقة للمسؤولين الصوماليين، وتراكيب لغوية غريبة لا تتماشى مع السياق الثقافي واللغوي المحلي.

تفتقر هذه المنشورات إلى الحس الثقافي واللغة العاطفية التي تميز الخطاب المحلي، مما يجعلها تبدو كترجمة آلية جافة، بلا روح أو خلفية اجتماعية، وهو ما يعكس أن من يقف خلف هذه الحسابات لا يملك معرفة حقيقية بالصومال وثقافته، بل يعتمد على نماذج ذكاء اصطناعي مُدربة بشكل سطحي، تُنتج محتوى أقرب إلى “نسخ ولصق” من قوالب مبرمجة مسبقًا.

استراتيجية التسلل بدلًا من البناء

لا تسعى هذه الشبكة الرقمية إلى خلق قاعدة مستقلة من المتابعين أو بناء مجتمعها الخاص، بل تعتمد على أسلوب أكثر خطورة: التسلل إلى المساحات الرقمية القائمة التي يديرها صوماليون حقيقيون. تنضم الحسابات الوهمية إلى المجموعات الشعبية والمنتديات التي تحظى بثقة المجتمع، وتبدأ بالتفاعل التدريجي والهادئ حتى تصبح جزءًا مألوفًا من النسيج الرقمي المحلي.

https://x.com/i/status/1923051704322228349

من خلال هذا الأسلوب، تستطيع هذه الحسابات زيادة مدى تأثيرها دون الحاجة لبذل جهد في بناء الثقة من الصفر. بل إنها تستثمر في شرعية هذه المجموعات لتمرير رسائلها السياسية دون إثارة الشكوك، ما يمنحها قدرة هائلة على التأثير في الرأي العام من الداخل، دون أن تترك بصمات واضحة على السطح.

تهديد متصاعد للسيادة الرقمية الصومالية

خلافًا لما قد يظنه البعض، فإن هذه الحسابات لا تعمل بشكل عشوائي أو غير منظم، بل تمثل أداة استراتيجية في يد صانع القرار الإماراتي. إذ يمكن استخدام هذه الشبكة لشن حملات تضليل واسعة خلال المحطات السياسية الحساسة، مثل الانتخابات، أو لإعادة توجيه النقاشات العامة نحو قضايا تصب في مصلحة الإمارات وحلفائها.

https://x.com/i/status/1923053477460049938

الأخطر من ذلك، أن هذه الحسابات تتفاعل مع المستخدمين الصوماليين وتجمع معلومات عنهم دون علمهم، مما يفتح الباب أمام استخدام البيانات الشخصية في حملات مستقبليّة تستهدف التأثير في السلوك السياسي أو الاجتماعي. كما تُستغل هذه الحسابات أحيانًا لنشر محتوى مؤيد لإسرائيل أو معادٍ لحركات المقاومة الفلسطينية، أو حتى لبث رسائل تحريضية تعمق الانقسامات العشائرية في البلاد، في محاولة لضرب وحدة المجتمع الصومالي من الداخل.

البنية التحتية الإماراتية للهيمنة الرقمية

من الجدير بالذكر أن هذه الشبكة ليست حالة معزولة أو مبادرة فردية، بل تأتي ضمن استراتيجية إماراتية شاملة تهدف إلى التوسع في مجالات الذكاء الاصطناعي كأداة للنفوذ الجيوسياسي. فبحسب الخطة الوطنية للإمارات، تسعى أبو ظبي إلى أن تصبح مركزًا عالميًا للذكاء الاصطناعي بحلول عام 2031، وتستثمر بكثافة في تطوير أدوات تتيح لها إنتاج محتوى موجه بلغات وثقافات مختلفة.

هذه الأدوات، وإن بدت في ظاهرها تقنية أو تجارية، إلا أن استخدامها السياسي بات أكثر وضوحًا، حيث تُسخّر في بناء شبكات تأثير داخل الدول الضعيفة أو الهشة سياسيًا، مثل الصومال، دون الحاجة لتدخل عسكري أو صدام مباشر. ويبدو أن الذكاء الاصطناعي، في السياق الإماراتي، لم يعد مجرد تقنية، بل أصبح أداة هيمنة ناعمة تعيد تشكيل الواقع بما يخدم أجندات الدولة الراعية لها.

ما يجري اليوم في الفضاء الرقمي الصومالي لا يمكن اعتباره مجرد اختراق عابر أو محاولة دعاية رخيصة. بل هو وجه جديد من الحرب، أقل وضوحًا، وأكثر فتكًا. إنها حرب نفسية رقمية تستهدف البنية الذهنية للمجتمع، وتعمل على إعادة تشكيل وعيه وذاكرته الجمعية، خطوة بخطوة، ومن الداخل.

في دولة مثل الصومال، حيث لا تزال الهشاشة السياسية والتداخلات القبلية قائمة، يصبح مثل هذا النوع من التدخل خطرًا وجوديًا. فمع كل تغريدة زائفة، وكل صورة مسروقة، وكل منشور مزيّف بلغة ركيكة، يُعاد تشكيل الإدراك العام، وتُعاد برمجة الولاءات، وتُزرع الشكوك والانقسامات.

التصدي لهذا النوع من الحروب لا يكون بالتقنيات وحدها، بل بالوعي المجتمعي، والتربية الإعلامية، وبناء أدوات وطنية للرقابة والمواجهة.