العدسة – منصور عطية

بينما تواصل عواصم العرب والعالم الانتفاض من أجل القدس احتجاجًا على قرار الرئيس الأمريكي دونالد “ترامب” بشأن اعتبارها عاصمة موحدة وأبدية للاحتلال الإسرائيلي، تدافع السعودية عن “ترامب”.

لم تكتف المملكة بمواقفها المتتالية التي كشفت خيانة متكاملة للقدس وللقضية الفلسطينية منذ إرهاصات قرار “ترامب” مرورًا برد الفعل الباهت عليه، وصولًا إلى التمثيل المنخفض في قمة إسطنبول الطارئة، وربما ليس انتهاء بما عبر عنها وزير خارجيتها أخيرًا.

هذه المعادلة تعطي تأكيدات غير مشكوك فيها بأن “صفقة القرن” التي تفضي إلى تصفية القضية الفلسطينية برمتها أصبحت واقعًا، وأن قرار “ترامب” بشأن القدس لم يكن سوى جزء منها، لكنه الجزء الأكبر حساسية.

 

دفاع مستميت واستعداد للتطبيع

الطامة الكبرى في مجموعة المواقف السعودية الأخيرة مثلتها تصريحات وزير الخارجية عادل الجبير، لقناة “فرانس 24″، والمنشورة الخميس 14 ديسمبر الجاري.

فعلى الرغم مما لاقاه “ترامب” من هجوم عاصف في مختلف عواصم العالمين العربي والإسلامي وفي الدول الغربية على حد سواء، تطوع الجبير للدفاع عنه بقوله إن “إدارة الرئيس الأمريكي دونالد “ترامب” جادة بشأن إحلال السلام بين الإسرائيليين والعرب”.

” عادل الجبير “

 

“الجبير” أضاف أن الأمريكيين “يعملون على أفكار، ويتشاورون مع كل الأطراف وبينها السعودية ويدمجون وجهات النظر التي يعرضها عليهم الجميع”، مشيرًا إلى أنهم أعربوا عن احتياجهم “لمزيد من الوقت لوضع خطة للتسوية في الشرق الأوسط وعرضها”.

وبرغم نفيه وجود أي علاقات للمملكة مع إسرائيل، رغم أنها تشاركها القلق من نفوذ إيران بالمنطقة، إلا أن وزير الخارجية السعودي أكد أن لدى بلاده “خارطة طريق” لإقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل بعد اتفاق سلام مع الفلسطينيين.

اللافت في تصريحات الجبير أنها تضمنت أمرين في غاية الأهمية؛ أولهما ما يمكن أن نسميه دفاعًا مستميتًا عن قرار “ترامب” وإدارته، والثاني يرتبط بالقرار من جانب وبالتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي واتفاق السلام مع الفلسطينيين من جانب آخر.

 

ابن سلمان عراب أمريكا

السعوية تبدو وكأنها جندت نفسها في هذه الأزمة عرابًا لإرادة أمريكا في إنفاذ قرارها، رغم ما أبدته الرياض من رفض له في بادئ الأمر، غير أن ربط ملابسات ما حدث بتصريحات “الجبير” يكشف دون لبس أو غموض حقيقة الموقف السعودي من قضية القدس.

البداية كانت مع تقارير إعلامية نقلت عن وزير الاستخبارات الإسرائيلي “يسرائيل كاتس”، قوله إن “ترامب” أجرى سلسلة اتصالات مع الزعماء العرب، قبل إعلان قراره، مشيرًا إلى استبعاده ردود فعل جدية من قبل هؤلاء الزعماء تتجاوز التقديرات السائدة في واشنطن وتل أبيب.

واستبعد الوزير بحكومة الاحتلال أن يكون للسعودية ردود أفعال سلبية تجاه قرار “ترامب” تؤثر على تحالفها مع إسرائيل.

ثم كان ما كشفته القناة العاشرة بالتليفزيون الإسرائيلي، التي قالت إن قرار الرئيس الأمريكي بنقل سفارة واشنطن من تل أبيب إلى مدينة القدس المحتلة، “لا يمكن أن يتم دون التنسيق عربيًّا”.

السيسي و “بن سلمان”

 

وكشف مراسل القناة العبرية أن كلاً من السعودية ومصر “أعطتا “ترامب” الضوء الأخضر لتنفيذ قراره ونقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس، تمهيدًا للقرار الكبير بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل”، وفق تقارير إعلامية.

وتابع المراسل: “ومن المؤكد أن إعلان “ترامب” وبداية إجراءات نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والتي يعتقد البعض أنها قد تشعل المنطقة، لم يكن ممكنًا أن يتم دون التنسيق مع السعودية ومصر، فالفلسطينيون يدفعون ثمن التغييرات الكبرى في المنطقة”.

ومؤخرًا كان التمثيل الهزيل للمملكة في قمة إسطنبول الإسلامية الطارئة بشأن القدس، والذي عكس مدى اهتمام قيادتها بالقضية، على نحو فُضح فيه موقف الدولة التي تحتضن أقدس المقدسات الإسلامية.(تفاصيل أكثر في تقرير سابق للعدسة)

ولم يكن لتلك الخطوات المتتالية فيما يتعلق بقضية القدس أن تتم لولا خطوات أخرى تمهيدية على مدار الأشهر الماضية، بدا منها عبر وقائع رصدها وحللها (العدسة) أن السعودية تهرول حثيثة وبخطوات متسارعة نحو التطبيع الكامل مع الاحتلال الإسرائيلي.

وبعيدًا عن الشواهد غير الرسمية وتلك التي يكون أبطالها أشخاصًا ليسوا في منظومة الحكم أو يتمتعون بحيثية كبيرة، أكد مسؤول إسرائيلي، رفض الكشف عن اسمه، لوكالة الصحافة الفرنسية إن المسؤول السعودي الذي زار إسرائيل سرًّا في شهر سبتمبر الماضي، هو ولي العهد محمد بن سلمان.

محمد بن سلمان برفقة “ترامب”

 

وها هو “الجبير” يتحدث الآن بشكل علني غير مسبوق عن خطة سعودية متكاملة للتطبيع، لكنه ربطها باتفاق سلام مع الفلسطينيين، إذن فالأمور أصبحت واضحة ولا مجال لاستمرار نغمة الحديث السعودي عن استبعاد التطبيع مع الاحتلال.

ليس هذا فحسب، بل الدلالة الأكبر في الحديث عن قضية التطبيع مع إسرائيل، تبرز في تزامنه مع أزمة القدس، ربما لتتضافر الأحداث كاشفة الوجه القبيح لآل سعود، بعد سنوات من بذل الجهد في محاولة تلميعه.

 

“صفقة القرن” أمر واقع

السياق ينقلنا مباشرة إلى الجزئية الثانية في تصريحات “الجبير”، تلك المتعلقة باتفاق التسوية بين إسرائيل والفلسطينيين، وتأكيده وجود خطة أمريكية بهذا الشأن تتم بالتشاور والتنسيق مع الأطراف المختلفة في المنطقة.

على الفور يتبادر إلى الأذهان الحديث المتزايد خلال الفترة الماضية عن “صفقة القرن” ودورها في تصفية القضية الفلسطينية، وهو ما أشار إليه إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في احتفالية انطلاقتها الثلاثين، أمس الخميس.

“هنية” رأى في كلمته بالاحتفالية، أن قرار “ترامب” بشأن القدس جزء من مخطط تمرير “صفقة القرن”، متعهدًا بمواجهة الأمرين على حد سواء لإسقاطهما.

” إسماعيل هنية ” أثناء الإحتفالية

 

الحديث عن “صفقة القرن” يعود إلى عام 2010، حين أنهى مستشار الأمن القومى الإسرائيلي السابق، اللواء احتياط “جيورا أيلاند”، عرض المشروع المقترح لتسوية الصراع مع الفلسطينيين في إطار دراسة أعدها لصالح مركز “بيجين-السادات” للدراسات الإستراتيجية، بعنوان: “البدائل الإقليمية لفكرة دولتين لشعبين”.

الدراسة التي نشرت تفاصيلها تقارير إعلامية في حينه، تقوم على اقتطاع 720 كيلومترًا مربعًا من شمال سيناء للدولة الفلسطينية المقترحة، تبدأ من الحدود المصرية مع غزة، وحتى حدود مدينة العريش، على أن تحصل مصر على مساحة مماثلة داخل صحراء النقب الواقعة تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، بينما تخلو الضفة الغربية بالكامل للاحتلال.

ترتكز الخطة على تحويل غزة إلى مدينة اقتصادية عالمية على غرار “سنغافورة” بعد زيادة مساحة شريطها الساحلي، مقابل إغراء مصر بمكاسب اقتصادية ضخمة لتحكمها في شبكة الحركة البرية والجوية والبحرية، التي ينتظر أن تربط تلك الدولة الفلسطينية بمصر والأردن والعراق ودول الخليج أيضًا.

ما أسماه الجنرال “أيلاند” – الموصوف بـ”أحد القريبين من دوائر صنع القرار” في إسرائيل – “تسوية إقليمية”، تجبر 22 دولة عربية على حل القضية الفلسطينية، ويُظهر خطته وكأنها ملائكية هدفها الأول والأخير تحويل فلسطين إلى “سنغافورة الشرق الأوسط”.

السيسي و”ترامب”

 

اللافت في الدراسة التي نُشرت تفاصيلها، أن مسؤولًا رفيعًا ومؤثرًا في الإدارة الأمريكية حينها سبق وأن اطلع على مشروع التسوية الإسرائيلي، قال للمسؤولين في تل أبيب: “انتظروا عندما يأتى وريث مبارك”.

هذا الوريث يكشفه تصريح أدلى به الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال زيارته إلى أمريكا ولقائه “ترامب” في أبريل الماضي، حينما قال: “ستجدنى بكل قوة ووضوح داعمًا لأى مساعٍ لإيجاد حل للقضية الفلسطينية في “صفقة القرن”، ومتأكد أنك تستطيع أن تحلها”.