أعلنت المملكة العربية السعودية مؤخرًا إدانتها لقرار سلطات الاحتلال الإسرائيلي بإنشاء وكالة تهدف إلى تهجير فلسطينيي غزة، ومصادقتها على فصل 13 حيًا استيطانيًا غير قانوني في الضفة الغربية تمهيدًا لشرعنتها. يأتي هذا البيان ضمن سلسلة طويلة من “المواقف الرسمية” التي تكررت في الخطاب السعودي خلال العقود الأخيرة، بينما تتزايد على الأرض مؤشرات انخراط النظام في مشاريع إقليمية تُقوّض القضية الفلسطينية، وتساهم عمليًا في تثبيت أركان الاحتلال.
ما يثير التساؤل اليوم، ليس فقط ضعف الفعل السعودي تجاه الانتهاكات الإسرائيلية، بل تناقض الموقف بين الخطاب السياسي العلني، والدور الفعلي الذي تلعبه الرياض في دعم أطراف معادية لفلسطين، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
بينما تُعبّر المملكة عن رفضها لخطط التهجير والتوسع الاستيطاني، فإنها في الوقت ذاته تحتفظ بعلاقات غير معلنة مع تل أبيب، وتشارك في صناعة بيئة سياسية واقتصادية تُمهد لتصفية ما تبقى من الحقوق الفلسطينية.
الإدانة الرسمية: لغة مألوفة بلا أثر سياسي
جاء بيان وزارة الخارجية السعودية ليُعرب عن “رفض المملكة واستنكارها” لخطط التهجير القسري في غزة، و”رفضها القاطع” لممارسات الاستيطان. ومع أن هذا الموقف يتماشى مع ما تكرره السعودية على المستوى الدبلوماسي، إلا أنه لا يُترجم على أرض الواقع إلى أي إجراءات ملموسة.
فلا استدعاء لسفراء، ولا تجميد للاتفاقيات، ولا تحركات في مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولا دعم ملموس للفلسطينيين في مواجهة الواقع الميداني.
البيانات وحدها لا تشكّل سياسة خارجية، ولا تعكس التزامًا حقيقيًا ما لم تُرافقها مواقف فعلية، خصوصًا في وقت يشهد الفلسطينيون فيه أسوأ مراحل الصراع من حيث التصعيد العسكري، وتضييق الخناق الاقتصادي، وخطط التهجير الجماعي.
الدور السعودي في غزة: شريك في التهميش لا الحماية
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023، التزمت السعودية بموقف رمادي، اكتفى بإبداء “القلق” و”الدعوة للتهدئة”، دون اتخاذ أي خطوة سياسية أو قانونية للدفاع عن المدنيين، أو ممارسة ضغط حقيقي على حلفائها في واشنطن وتل أبيب.
بل على العكس، برزت الرياض كلاعب رئيسي في طرح خطط “ما بعد الحرب” على غزة، وهي الخطط التي صيغت في غرف مغلقة، دون مشاركة الفصائل الفلسطينية، أو احترام لحق السكان في تقرير مصيرهم.
هذه الخطط تميل إلى تفكيك البنية السياسية للمقاومة، وتُمهّد لحكم تكنوقراطي تشرف عليه قوى إقليمية كالسعودية ومصر، تحت مظلة أمريكية – إسرائيلية، الأمر الذي يعني عمليًا إخراج غزة من سياق الصراع، وتحويلها إلى مساحة تحت الوصاية السياسية والاقتصادية.
التطبيع الزاحف: من أبو ظبي إلى الرياض
بينما تهاجم السعودية سياسة الاستيطان في البيانات الرسمية، فإن خطواتها نحو التطبيع مع إسرائيل مستمرة، وإن كانت بشكل أقل علنية من الإمارات أو البحرين.
اللقاءات الأمنية بين مسؤولي الرياض وتل أبيب، التي كشفت عنها تقارير صحفية أمريكية وإسرائيلية، وزيارات المسؤولين غير المعلنة، وصفقات التكنولوجيا والتبادل التجاري تحت غطاء شركات أجنبية، كلها مؤشرات واضحة على انخراط تدريجي في علاقات طبيعية مع الاحتلال.
وتؤكد مصادر دبلوماسية في واشنطن أن السعودية اشترطت الحصول على ضمانات أمنية أمريكية مقابل إعلان التطبيع الكامل، وهو ما يُظهر أن فلسطين ليست في صلب هذا التفاوض، بل مجرد ورقة تُستخدم لتحسين شروط التفاهم مع إسرائيل.
الاستثمارات السعودية في شركات مرتبطة بالمستوطنات
في مارس 2025، نشر موقع Middle East Eye تحقيقًا كشف فيه أن صناديق استثمار سعودية حكومية استثمرت في شركات إسرائيلية مدرجة على القائمة السوداء للأمم المتحدة، بسبب عملها في بناء المستوطنات.
من بين هذه الشركات بنوك، وشركات بناء، ومقاولات، واتصالات، تقدم خدمات مباشرة للمستوطنين في الضفة الغربية والقدس والجولان المحتل.
هذه الاستثمارات لا يمكن فصلها عن الموقف السياسي السعودي، فهي تعكس دعمًا ماليًا ضمنيًا لسياسات الاحتلال، وتتناقض تمامًا مع الخطاب الرسمي، الذي يدّعي دعم الفلسطينيين.
الازدواجية تضعف المصداقية السياسية
ما تفعله السعودية اليوم يشبه السير على حبل مشدود: تحاول إرضاء الجمهور العربي ببيانات تنديد شكلية، بينما تمضي في بناء تحالفات جديدة مع إسرائيل ضمن منظومة إقليمية تخدم أولًا المصالح الأمريكية، وثانيًا بقاء الأنظمة العربية السلطوية في مواقعها.
لكن هذه الازدواجية بدأت تُضعف من مصداقية الرياض على المستوى الشعبي، وتُظهر أن قضية فلسطين، بالنسبة للنظام السعودي، لم تعد إلا عبئًا سياسيًا تُدار علاقته به وفق حسابات النفوذ، لا المبادئ.
الاستنكار لا يحرر أرضًا.. بل يغطي على الصفقات
السعودية اليوم تواصل إصدار بيانات شجب لا تتجاوز حروفها، بينما تشارك في رسم خرائط سياسية واقتصادية تُكرّس الاحتلال وتُهمّش الفلسطينيين.
خلف لغة الدبلوماسية، يجري بناء تحالفات أمنية، وتُبرم صفقات بمليارات الدولارات، وتُخطط خرائط ما بعد الحرب في غزة، دون أن يكون للفلسطينيين أي دور في تقرير مصيرهم.
إذا كانت المملكة تدين الاستيطان فعلًا، فلتتوقف عن تمويل شركاته، ولتُجمّد مشاريع التطبيع، ولتضغط على الولايات المتحدة بدلًا من مجاملتها.
أما أن تندد علنًا وتُمّول خفية، فتلك سياسة لا تحمي شعبًا، ولا تصون حقًا، ولا تبني أي شرعية.
اضف تعليقا