الانتظار في صالات المطارات مرهق جدا، خصوصا إن كان بدون رفقة حقيقية، تضطر دائما إلى تأمل المكان والناس والوجوه، يحضرني في تلك الأمكنة مشاعر قلقة مضطربة، لا من كوني سأستقل طائرة يخشى ركوبها البعض، ولكن من كوني أخشى الوداع، ولا أستسيغ أبدا فكرة الانقضاء وتباعد المسافات، نعم أؤمن بها وأستيقن من أنها سنة الله على هذه الأرض، لكنها حقا توجعني وتجعلني قريبة الدمعات.

فراق الأحبة، فراق اللحظات، انقضاء تراتيب الروتين اليومي، كلها أشياء أغادرها منهكة متعبة مع فقرة أن الأيام دول والحياة في تغيير فما نجدهُ اليوم لا نجده غداً، وجوه الناس في المطارات مثقلة بالتعب والحزن في شقها المسافر، محملة بالعبق والشوق واللهفة في شقها العائد، وأنا بين هذا وذاك أستلقي على مقعدي ناظرة متأملة وربما دامعة.

كيف يمكن أن نرتضي لأنفسنا حياة روتينية تقليدية ليس فيها تجارب ولا مغامرات؟ إن أساس هذا السؤال نابع من كوني أرى حولي أناسًا وعجائز كثر بلغن من العمر أرذله ولم يحملهم القدر للارتحال أو المغامرة أو الذهاب ها هنا وهناك، بل ظلوا هكذا حبيسيّ أماكنهم وحيزهم الصغير، لم يكن اختيارًا لهم بالتأكيد، بل الظروف تفرض علينا كثيرًا ما لا نوده، و الله حتمًا سيعوضهم ذات يوم خيرًا لصبرهم الجم على ما كُتِب لهم من حياة.

إذا كنا نمتلك الفرصة لنسافر فلما لا نسافر، لا شرط أبدًا أن يكون إلى آخر العالم، ربما يكفي أن نخرج ونزور مكان في الجوار هنا أو هناك، مكان ما لم نره بعد وما أكثرها من أماكن، ها قد أتت فرصتي أخيرا لملاحقة شغفي وحبي للترحال، كانت فكرتي عن السفر في ريعاني الأول محدودة جدا، لا تتعدى الأمل في الذهاب إلى مدن مغربية أخرى في الجوار، لكن فكرتي باتت واقعًا؛ وواقعي بات أرحب بكثير مما تخيلت.الأماكن في قلوبنا لها وصل عجيب مريب إنها تسكننا بقدر ما نسكنها، تسري في أرجائنا بقدر ما نسير في طرقاتها عاشقين، ما زلت متذكرة بيتي الأول بكامل تفاصيله، أتذكر أرجوحتنا التي صنعناها بأنفسنا على إحدى الشجرات، أتذكر يد أمي مطبقة على يدي وأنا معها سائرة مرغمة إلى مدرستي البعيدة، كل الصور كل الذكريات تعود حية نشطة بمجرد أن تلامسنا شمس الشتاء، شمس لها فعل السحر، تهبنا طاقة وأي طاقة أن نعود أدراجنا إلى الوراء إلى حيث بقعة من الزمان لا تنسانا ولا ننساها.

في صغري كان تطلعي دومًا إلى السماء، إلى صفائها وزُرقتها السابحة في الحلم،، بشوق أتطلع إلى القمر ودورانه المهيب وتنقله، أنظر إلى الغروب يُضيّق الرؤيا على الأشياء إلى الشروق إذا تتفتح معه القلوب، وأبعث في ذاتي التوق أن أراهم جميعًا ذات يوم من مكان آخر غير الذي أنا فيه، الرومانسية العارمة ربما تعطلنا كثيرًا عن النجاح عن الانتصار لكن متى كان الأمر يومًا بالاختيار؟!

حريصة أنا على تجديد العلاقة مع ماضي وما به من أماكن بقدر حرصي كذلك على إضافة مزيد من الوجهات إلى حاضري وخاطري، إننا نعود أقدر على مواجهة الأيام كلما تجددنا كلما سرنا بلطف في شوارع بعيدة وأزقة لم ندري عنها يوما وجود، وكأننا كلما رأينا أحدا جديدا وحياة أخرى مناظرة لنا، خفف هذا عنا وطأة الأيام، أن عرفنا وأيّقنا أن هناك أشباهنُا كُثر يُكابِدن يوميًا ويكْدحن سيرًا مثلنا على ثرى السنوات.

الآراء الواردة في التدوينة تعبر فقط عن رأي الكاتب، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “العدسة“.