لا يختلف اثنان على أن تأهل المنتخب المصري لكرة القدم لنهائيات كأس العالم في روسيا 2018، إنجاز لم يتحقق منذ 28 عامًا، استحق عليه الشعب المصري فرحة ربما لا يجدونها كثيرًا في هذه الأيام.

لكن هل يستحق الإنجاز الكروي كل هذه الضجة؟ الآلاف يحتفلون في الشوارع وفي مقدمتهم القيادات التنفيذية بالمحافظات، التهاني تنهال على مصر من ملوك ورؤساء وأمراء العالم العربي.

ربما يمكن قراءة الأمر أنه يأتي في سياق الفرحة العارمة، لكن لعلها كانت مبالغة إلى حد كبير، إلى الحد الذي لا ينتبه معه المصريون إلى أن الرئيس عبدالفتاح السيسي قرر صرف مكافأة مليون ونصف المليون جنيه لكل لاعب، في ظل ظروف اقتصادية صعبة للغاية.

رقم ليس بالقليل عند تجميع حاصل ضربه في عد اللاعبين، ولا شك أن المكافأة سوف تشمل أيضًا أعضاء الجهازين الفني والإداري للمنتخب، إلا أن هذا لم يمنع أبرز الإعلاميين الموالين للسلطة من وصف المبلغ بأنه “شوية” أي قليل، من وجهة نظره.

وعلى الرغم من المبالغ التي ستحصل عليها مصر من الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا” والشركات الراعية، إلا أن التقليل من قيمة المكافأة ربما ينطوي على استهتار بمعاناة ملايين البسطاء من المصريين الذي يكتوون يوميًا بنار أسعار لا يشعر بها لاعبو المنتخب ولا الإعلاميون بطبيعة الحال.

تغفيل المصريين

بعيدًا عن الأرقام والاحتفالات، هل يحاول النظام الحاكم استغلال إنجاز التأهل لكأس العالم لصالحه؟ الإجابة قطعًا نعم، فبديهيًا لن يفوت أي حاكم فرصة مثل تلك في حصد النقاط لصالحه.

وفي مصر كان الأمر أكبر من ذلك، فقد سبق الاستغلال الحدث نفسه، واستثمرت الحكومة انشغال المصريين بالمباراة، وأصدر رئيسها في نفس يوم المباراة وقبل بدئها بسويعات، قرارًا في منتهى الخطورة.

القرار الذي أصدره إسماعيل بتفويض من رئيس الجمهورية، ينص على إحالة القضايا الجديدة في بعض الجرائم المنصوص عليها في القوانين المختلفة؛ إلى محاكم أمن الدولة طوارئ، وذلك طوال فترة تطبيق حالة الطوارئ المعلنة في جميع أنحاء الجمهورية منذ 10 أبريل الماضي.

وحدد القرار مجموعة كبيرة من الجرائم التي ستحال إلى محاكم أمن الدولة؛ على رأسها الجرائم المنصوص عليها في قوانين: التظاهر، والتجمهر، ومكافحة الإرهاب، والإضراب، والأسلحة والذخائر، وحرية العبادة، وجرائم التموين، ومخالفة التسعير الجبري، والبلطجة وتعطيل وسائل المواصلات المنصوص عليها في قانون العقوبات.

مكمن الخطورة في أن رئيس الجمهورية وحده هو من يملك سلطة تعيين أعضاء محاكم أمن الدولة بعد أخذ رأي وزير العدل، كما أنه يختص بالتصديق على الأحكام الصادرة منها أو تخفيفها أو إلغائها، ولا يجوز الطعن عليها بأي صورة من صور الطعن.

البداية المبكرة لاستغلال الحدث لم تتوقف هنا، بل يأتي في إطارها استقبال السيسي للاعبي المنتخب وجهازيه الفني والإداري بحي التجمع اليوم الاثنين.

وعلى الرغم من أن هذا الاستقبال ربما يكون شيئًا عاديًا ومعمولا به في دول كثيرة، بل سبق أن استقبل السيسي المنتخب بعد عودته من كأس الأمم الأفريقية في الجابون خالي الوفاض، إلا أن الظروف والملابسات المحيطة بالأمر تدفع إلى اتهامات تلاحق السلطة بمحاولة الاستيلاء على الإنجاز الكروي ونسبه لنفسها، على طريقة “السيد الرئيس راعي الرياضة والرياضيين” تلك الجملة الشهيرة التي كانت تتردد دومًا على لسان مسؤولي الرياضة في مصر عند تحقيق أي إنجاز كروي في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك.

بين «فؤاد 34» و «السيسي 2017» !

المفارقة عند الحديث عن استغلال السيسي للتأهل إلى كأس العالم كأحد إنجازاته، أن صعود مصر للمرة الأولى في تاريخها للمونديال العالمي كان عام 1934 في عهد الملك فؤاد الأول.

هذا الرجل شهدت مصر في عهده إنجازات لم يسبق لها مثيل، وأسست – رغم الاحتلال – لدولة مصرية قوية بنهضة صناعية حديثة، واقتصاد مزدهر وصل إلى حد إقراض دول أوروبية.

ففي سنوات حكمه الممتدة بين عامي 1917 و1936، أسس الحياة النيابية، وأصدر دستور 1923، وأنشأ جامعة القاهرة (فؤاد الأول سابقًا) والإذاعة المصرية ومعهد التمثيل.

اقتصاديًا حدث ولا حرج، فقد أنشأ بنك التسليف الزراعي، وبنك مصر عام 1920، وما ترتب عليه من مشروعات عملاقة مثلت قاطرة الاقتصاد المصري وقوتها الناعمة التي أسفرت عن ريادتها الحضارية على مدار عقود تالية.

وأنشأ مجموعة شركات حملت اسم مصر، مثل شركات: مصر للطيران، والسياحة، والغزل والنسيج (المحلة الكبرى)، والطباعة، وحليج الأقطان، والتمثيل والسينما، والنقل والملاحة، وبيع المصنوعات، واللبان والأغذية، وصناعة وتجارة الزيوت، وغيرها.

كيف يوظفه السيسي مستقبلًا ؟

التضخيم الإعلامي للإنجاز الكروي، يتزامن مع حملة أخرى تلصق هذا الإنجاز – إن صح التعبير – بشخص السيسي، وتضعه في “قائمة إنجازات” الرئيس.

من هنا تحديدًا، تنطلق حملة ثالثة، ليست لمجرد التضخيم من الحدث أو حتى نسب الإنجاز للسيسي، بل لمحاولة توظيف الحدث لصالحه، واستغلاله الاستغلال الأمثل على مدار الأشهر القادمة حتى بداية النهائيات صيف 2018.

المفارقة أن نهائيات كأس العالم تتزامن مع انتخابات رئاسة الجمهورية، الأمر الذي يجعل من استخدام التأهل كورقة انتخابية في صالح السيسي إذا خاض بالفعل السباق لفترة رئاسية ثانية.

فمن المنتظر أن يتصدر التأهل لكأس العالم بعد حرمان 28 عامًا قائمة الإنجازات التي يسوق بها المرشح عبدالفتاح السيسي لنفسه في الانتخابات، الأمر الذي من شأنه أن يرفع رصيده كنقطة قوة أمام منافسيه المحتملين.

ومن المتوقع أن يستمر اللعب على هذا الوتر بشكل متصاعد خلال الفترة المقبلة، مع تجييش وسائل الإعلام الموالية للسلطة في هذا الاتجاه.

النفخ في مشاعر الوطنية والانتماء والوحدة والتكاتف إلى آخره من المصطلحات التي تستدعيها وسائل الإعلام في أوقات محددة، قد تشكل اتجاهًا آخر في طريق توظيف الإنجاز الكروي لصالح السلطة.

تصاعد تلك المشاعر لدى الشعب المصري “العاطفي”، ربما تنسيه قليلًا أو حتى تخرجه بعيدًا عن دائرة أزماته وانشغالاته اليومية المفرغة، إلى حد الإلهاء عن حقيقة ما يعيشه.

فهل تكسب السلطة الرهان وتزيل حلاوة التأهل طعم المرارة في حلوق المصريين ؟

الإجابة على هذا التساؤل ربما ترتبط بعدة عوامل، أبرزها قوة الحملة الإعلامية وانتشارها ومدى تأثيرها على المواطن بشكل يومي، تجعله لا يفيق من غفلة العيش في ظل الإنجاز وأحلامه برؤية علم مصر يرفرف في روسيا، وتوقعاته لأداء المنتخب وفرص تأهله للأدوار التالية، وتشكيل مجموعته، وغير ذلك من التفاصيل التي يمكنها بمساهمة من البرامج الرياضية في الفضائيات، أن تستغرق المصريين ونقاشاتهم في أماكن العمل والشارع ووسائل المواصلات إلى أبعد الحدود.

في خضم هذا الإلهاء يجد الشباب المتحمس ما يفرغ فيه طاقاته، بعيدًا عن التظاهر والاحتجاج وخلافه من الممارسات التي تضايق السلطة

ليس ببعيد من قصة الإلهاء، بُعد آخر لاستغلال الإنجاز من قبل السلطة في تمرير قرارات اقتصادية ما، تتعلق برفع أسعار سلع مثل الوقود والتموين، وخدمات مثل الكهرباء والمياه أو فرض ضرائب أو غيرها من القرارات التي اكتوى المصريون بنارها على مدار أكثر من 3 سنوات.

ففي غمرة الفرحة، ودوامة التوقعات والأحلام والطموحات لما هو آت في المونديال، قد لا ينتبه كثيرون لمثل هذه القرارات، أو على أقل تقدير لن يكون الانتباه بنفس القوة في حال لم يتأهل المنتخب.

الشاهد على هذه الجزئية قريب جدًا، فقبل أيام رفعت الحكومة أسعار كروت شحن شركات الاتصالات بنسب كبيرة، وربما كانت القضية ستطغى على اهتمامات المصريين لمدة طويلة، إن لم تكن هناك تصفيات أو تأهل، أما الآن فلا أحد يتكلم ونسي الجميع الأمر، وهو المطلوب.

قوانين مشبوهة و أحكام صادمة

الأمر لا يتوقف عند القرارات الاقتصادية وربما يتعداها خطورة، لأن استغلال الإنجاز وانشغال المصريين بالفرحة والاحتفال، قد يمتد إلى قوانين سيئة السمعة أو قرارات مشبوهة أو حتى أحكام قضائية صادمة.

الذي يعزز من احتمالية حدوث الأمر، هو إصدار قرار الإحالة لمحاكم أمن الدولة، كما أشرنا سابقًا، وما يترتب عليه من خطورة إذ ينطوي على مجموعة من الجرائم المتعددة ولا يقتصر على الإرهاب فقط.

هذا القرار سيكون سيفًا مصلتا، ليس على رقاب المعارضين السياسيين فقط، بل يمتد لينال فئات عديدة غير محصورة من الشعب، من عمال وتجار وبائعين في دائرة لا يمكن قياس اتساعها.

الجانب الآخر المتعلق بتلك المحاكم، هو إمكانية استغلالها – في خضم فرحة التأهل – في إصدار أحكام قاسية بحق المصريين بشكل عام، وأخرى صادمة بحق المعارضين وفي مقدمتهم قيادات وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين.

وهكذا بات تنفيذ أحكام الإعدام في القضايا الجديدة الخاضعة للقرار، أقرب مما يتخيل الجميع، فالخصم هو الحكم.

السيسي خصم الإخوان هو من يشكل المحاكم ويعين قضاتها ويصدق على الأحكام ويحق له تخفيفها أو إلغائها، في ظل أن تلك الأحكام من درجة واحدة وغير قابلة للطعن.