موافقة مسبقة أم رفض معلن؟
منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بعد أيام من فوزه بولاية رئاسية جديدة، عن خطته لتهجير 1.5 مليون فلسطيني إلى مصر والأردن، لم تتوقف الضغوط الأمريكية على القاهرة وعمّان، مصحوبة بتصريحات متكررة تدفع باتجاه تنفيذ هذا المخطط.
وبينما خرجت البيانات الرسمية المصرية والأردنية برفض قاطع لهذه الخطة، فإن واقع السياسة المصرية يطرح تساؤلات حول حقيقة هذا الرفض، في ظل سوابق تشير إلى انصياع النظام المصري لرغبات واشنطن وتل أبيب في العديد من الملفات المصيرية.
وبينما تسوّق السلطة المصرية لموقفها الرافض للتهجير، كان رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو قد طرح ذات المخطط بعد أيام من بدء العدوان على غزة في أكتوبر 2023، وسعت حكومته إلى إقناع القادة الأوروبيين بممارسة الضغط على مصر لقبول اللاجئين.
وكشفت وثيقة صادرة عن وزارة الاستخبارات الإسرائيلية أن التهجير إلى سيناء جزء من خطة أوسع تشمل إنشاء منطقة عازلة داخل الأراضي المصرية، وهي خطوات لم يصدر عنها موقف مصري حقيقي سوى بيانات شكلية لا تتجاوز التصريحات الإعلامية.
بينما في الكواليس، يبدو أن السيسي كان قد وافق مسبقًا على “صفقة القرن” التي وضعها ترامب، والتي لطالما سعت إلى تصفية القضية الفلسطينية عبر مشاريع التوطين والتهجير.
الضغوط الأمريكية وتلميحات بقطع المعونات
رغم الموقف الإعلامي الرافض للتهجير، فإن اللهجة الأمريكية تغيرت سريعًا، حيث بدأ ترامب في الحديث بصيغة الأمر بدلاً من الطلب، مؤكداً أن مصر والأردن ستقبلان باستضافة الفلسطينيين. هذه اللهجة التصعيدية لم تكن مفاجئة، خاصة أن النظام المصري يعتمد بشكل كبير على الدعم الأمريكي، لا سيما المساعدات العسكرية التي تصل إلى 1.3 مليار دولار سنويًا من أصل 3 مليارات تقدمها واشنطن لمصر.
وفي ظل التهديدات العلنية التي قد تشمل قطع المساعدات أو فرض عقوبات اقتصادية، لا يبدو أن السيسي في موقع يسمح له برفض الضغوط الأمريكية بشكل حقيقي. هذا النظام الذي يعتمد على الدعم الخارجي لضمان بقائه، لطالما قدّم تنازلات إستراتيجية مقابل استمرار تدفق الدعم المالي والعسكري. وما شهدته القاهرة من مظاهرات محسوبة على أجهزة الدولة، والتي رفعت شعارات رفض التهجير، لم يكن سوى محاولة مكشوفة لصنع صورة زائفة عن رفض شعبي، بينما يُمنع أي تحرك شعبي حقيقي مناهض للمخططات الأمريكية والصهيونية.
الخطوات الأمريكية قد لا تتوقف عند مجرد الضغط السياسي، إذ أشارت تقارير إلى إمكانية استخدام أدوات أكثر تأثيرًا، مثل وقف المعونات، أو الضغط على المؤسسات المالية الدولية لتقييد القروض والمساعدات الاقتصادية لمصر، وهو ما قد يفاقم الأزمة الاقتصادية المتردية أصلاً، ويدفع النظام المصري إلى تقديم تنازلات جديدة في سبيل استمرار دعمه من قبل القوى الغربية.
حسابات السيسي بين واشنطن والشعب المصري
مع تصاعد الضغط الأمريكي، يجد النظام المصري نفسه أمام خيارين: إما الانصياع لمطالب ترامب وتنفيذ مخطط التهجير تدريجيًا، كما أشار محللون، عبر السماح بدخول أعداد صغيرة من الفلسطينيين تحت ذرائع “إنسانية”، وإما اتخاذ موقف حقيقي يُظهر رفضًا فعليًا لهذه السياسات. غير أن التجربة أثبتت أن النظام المصري يفضل المساومة على الملفات الحساسة، ويبحث دائمًا عن مخرج يُبقي على علاقاته مع واشنطن دون أن يواجه رد فعل شعبي قوي.
المفارقة أن السيسي، الذي يروج لنفسه على أنه “حامي الأمن القومي المصري”، هو نفسه الذي فرّط في تيران وصنافير، وغض الطرف عن مشاريع إسرائيلية في البحر الأحمر، وسهّل تطبيع العلاقات الخليجية مع تل أبيب، ويستمر في سياسات تخدم المصالح الإسرائيلية أكثر مما تحمي الحقوق الفلسطينية.
السيناريو الأقرب إلى الواقع أن مصر قد تسعى إلى تنفيذ مخطط التهجير تدريجيًا، دون إثارة ضجة إعلامية، من خلال السماح بدخول بعض الفلسطينيين تحت مبررات العلاج أو الدراسة أو لمّ الشمل، وهو السيناريو الذي يتم الحديث عنه منذ سنوات. وبالنظر إلى المشروعات السكنية التي أقامتها مصر في السنوات الأخيرة في سيناء، قد يكون جزء منها مخصصًا لاستقبال الفلسطينيين لاحقًا، في إطار تنفيذ “صفقة القرن” بصيغة معدلة تتناسب مع الظروف السياسية الراهنة.
لكن يبقى العامل الحاسم في هذا المشهد هو الرفض الفلسطيني القاطع لمخططات التهجير، وهو ما يعقّد أي محاولات لتنفيذ الخطة، فالشعب الفلسطيني أثبت عبر العقود الماضية أنه متمسك بأرضه، وأن أي محاولة لفرض واقع جديد ستواجه بمقاومة شرسة، تجعل من هذا السيناريو غير قابل للتحقق بسهولة.
خاتمة: السيسي بين نارين
يبدو أن السيسي، الذي طالما قدّم نفسه كحليف موثوق لواشنطن وتل أبيب، يجد نفسه الآن في مأزق معقد. فهو من جهة لا يستطيع رفض الضغوط الأمريكية بشكل حقيقي.
من جهة أخرى يخشى أن يؤدي انخراطه في مخطط التهجير إلى انتفاضة شعبية تهدد استقراره الهش. لكن المؤكد أن مصر الرسمية، رغم كل التصريحات الإعلامية، لم تقطع الطريق بشكل حاسم أمام هذه المؤامرة، بل تترك الباب مفتوحًا أمام احتمالات التكيف مع متغيرات المشهد السياسي الدولي، حتى لو كان ذلك على حساب السيادة الوطنية وحقوق الشعب الفلسطيني.
اقرأ أيضًا : اللوبي الإماراتي في أمريكا: شبكة نفوذ تُسلّح الميليشيات وتُجهض العقوبات
اضف تعليقا