تقرير جديد لصحيفة الغارديان البريطانية يطرح سؤالًا مصيريًا: هل نقترب من حرب عالمية ثالثة، أم أنها قد بدأت بالفعل دون أن يعترف بها العالم رسميًا؟ تحت هذا العنوان المقلق، يرسم التقرير صورة عالم ينزلق بلا كوابح نحو الفوضى الشاملة، حيث تتهاوى المؤسسات الدولية، وتُداس القوانين التي صيغت بعد الحرب العالمية الثانية، وتتصاعد الحروب التي تقودها دول وقوى عظمى دون رادع أو مساءلة.
المحللة السياسية والمستشارة الحكومية فيونا هيل ترى أن الحرب العالمية الثالثة قد بدأت بالفعل، لكننا نرفض الاعتراف بذلك. من كشمير إلى خان يونس، من ميناء الحديدة إلى بورسودان، ومن كورسك إلى قلب أوكرانيا، لا تُسمع إلا أصوات القصف والانفجارات، بينما تعجز الأمم المتحدة والمحاكم الدولية عن فرض أي قواعد أو ردع أي معتدٍ.
وزير الخارجية البريطاني الأسبق ديفيد ميليباند أكد أن العالم يمر بلحظة تحوّل جيوسياسي غير مسبوقة منذ نهاية الحرب الباردة، واعتبر أن إدارة دونالد ترامب تمثّل عرضًا وسببًا في آنٍ معًا لهذا الانهيار. العالم ينزلق من نظام دولي كانت الولايات المتحدة فيه بمثابة العمود الفقري، إلى واقع غير واضح الملامح، لا تسوده قطبية واحدة ولا توازنات مستقرة، بل فوضى قاتلة.
رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير وصف المشهد بأنه “أكبر صدمة استراتيجية يشهدها العالم منذ عقود”، حيث يعيد الجميع التفكير في مواقعهم وتحالفاتهم، بينما تسود الساحة الدولية أصوات الارتباك والخوف والبحث المحموم عن الخيارات.
الوزير الأمريكي السابق أنتوني بلينكن عبّر بوضوح عن حجم الكارثة، واصفًا انسحاب الولايات المتحدة من القيادة العالمية بأنه عمل تخريبي. بعد عقود من بناء الثقة والتحالفات الاقتصادية والعسكرية، تدمر واشنطن كل ذلك خلال أسابيع من قرارات مرتجلة وغير مفهومة. النتيجة، حسب بلينكن، أن دولًا بدأت تبحث عن وسائل للعمل معًا… لكن دون الحاجة إلى أمريكا.
النتائج الكارثية لهذا التراجع الأمريكي كانت جلية هذا الأسبوع. العالم قد لا يعترف رسميًا باندلاع حرب عالمية ثالثة، لكن الواقع يؤكد أن العالم بات غارقًا في الحروب. في غزة، تستمر إسرائيل في فرض الحصار وتجويع السكان ومنع المساعدات، في تحدٍّ لأوامر واضحة وملزمة من محكمة العدل الدولية. القصف الإسرائيلي يمتد إلى اليمن ولبنان وسوريا، وتُمارَس ضغوط يومية على واشنطن للموافقة على ضرب إيران.
الصمت الأمريكي تجاه تصريحات مجرمة ومعلنة مثل تلك التي أطلقها وزير المالية الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش، يعكس حجم التواطؤ. الأخير لم يكتفِ بالتباهي بمخطط تدمير غزة بالكامل خلال أشهر، بل أعلن أيضًا أن الحكومة الإسرائيلية ستفرض السيادة على الضفة الغربية قبل نهاية ولايتها، في خطوة تمهّد لضمّ كامل للأراضي المحتلة وتطهيرها من سكانها الأصليين.
رد الفعل الأوروبي لم يأت من الحكومات الكبرى، بل من وزير الخارجية البلجيكي ماكسيم بريفو الذي وصف الحصار الإسرائيلي بأنه “عار مطلق”. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أشار إلى ازدواجية المعايير الغربية: “إذا كنا ندين روسيا لانتهاكها سيادة أوكرانيا، فكيف نصمت عندما يحدث الشيء ذاته في غزة؟”.
ورغم الدعوات لتوحيد الموقف الأوروبي، فشلت الدول الأوروبية حتى في إصدار بيان مشترك، ناهيك عن تنفيذ خطوات عقابية كتعليق اتفاقية التجارة الحرة مع إسرائيل. في ذات السياق، واصلت الإمارات العربية المتحدة دعم ميليشيات الدعم السريع في السودان، واستطاعت الإفلات من المساءلة الدولية رغم محاولات حكومة الخرطوم رفع دعوى ضدها أمام محكمة العدل الدولية، التي اكتفت بالقول إنها “تفتقر للاختصاص”، ما أتاح للإمارات أن تُجمّل صورتها بتوقيع اتفاقيات دولية دون أن تخضع فعليًا لأي مساءلة.
الحرب بين الهند وباكستان تشتعل مجددًا في كشمير، دون أي حضور دبلوماسي أمريكي فعّال أو حتى اهتمام إعلامي. لا سفير أمريكي في نيودلهي أو إسلام آباد، ولا تحرّك رسمي من وزارة الخارجية. ترامب علق بشكل سطحي بأن “هذا أمر مؤسف” وأنهم “يتقاتلون منذ قرون”، بينما كانت الإدارة الأمريكية في تسعينيات القرن الماضي تقود مبادرات حاسمة لتهدئة التوتر بين البلدين.
في أوكرانيا، تتجمع ملامح الحرب العالمية فعليًا. بحسب الجيش البريطاني، تجاوز عدد ضحايا روسيا في الحرب 900 ألف قتيل وجريح، في حصيلة تفوق حروبها السابقة في الشيشان وأفغانستان. فيونا هيل ترى أن هذه الحروب لم تعد مجرد صراعات إقليمية، بل باتت “حروبًا مغيرة للنظام”، بمشاركة أطراف متعددة ومصالح متداخلة. الصين وكوريا الشمالية وإيران تدعم روسيا بطرق مباشرة، مثل بناء مصانع طائرات مسيرة أو إرسال قوات، بينما دول كالهند تشتري النفط والسلاح من موسكو بمبالغ ضخمة، مما يجعل “حيادها” موضع شك.
ترامب، كما يُظهر التقرير، لا يرى العالم من منظور القانون، بل كخارطة مصالح تتقاسمها القوى الكبرى. حلمه هو إعادة تمثيل مؤتمر يالطا 1945 إلى جانب بوتين وشي جينبينغ، حيث تُقسم مناطق النفوذ ويتحول العالم إلى مربعات صراع، بينما أوروبا تكتفي بالمشاهدة وأوكرانيا تُسلّم لمصيرها. لكنه فشل في فرض هذا المشهد، بعدما استعاد الرئيس الأوكراني زيلينسكي زمام المبادرة وطرح هدنة ثلاثين يومًا، وصفقة معادن مع واشنطن، وأعاد التذكير بأهمية بلاده في الأمن الأوروبي.
الصورة التي جمعت ترامب وزيلينسكي في جنازة البابا، والتي التقطها مدير مكتب الرئيس الأوكراني، بدت كأنها لحظة مصالحة، لكنها كانت في الحقيقة استعراضًا غروريًا آخر. حتى من كانوا من أشد المعارضين لدعم أوكرانيا، مثل جي دي فانس نائب الرئيس الأمريكي، بدأوا يتحدثون عن “مطالب روسية مبالغ فيها”، ويؤكدون أن الغرب والولايات المتحدة “في خندق واحد”.
لكن الأوروبيين لم يعودوا يثقون بواشنطن، وهم يشرعون الآن في التخطيط لاستراتيجية أمنية مستقلة. فرنسا وبريطانيا شكّلت نواة قوة استكشافية مشتركة، وانضمت إليها دول أخرى من مجموعة فايمار بلس، استعدادًا لاحتمال توجيه روسيا ضربة مباشرة للقارة الأوروبية.
الرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير وصف الواقع الجديد بأنه “نهاية القرن العشرين الطويل”، بسبب صدمتين تاريخيتين: الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وابتعاد الولايات المتحدة عن القيم التي أسست النظام العالمي الحديث. أوروبا، وفقًا لكلمته، مطالبة بأن تقرر الآن ماذا بعد، وأن تبني أمنها وسياستها الخارجية دون الاعتماد على قوة لم تعد تلتزم بأي قواعد.
يعكس تقرير الغارديان انهيار النظام العالمي القائم على القواعد والمؤسسات، ويفضح غياب القيادة الأمريكية وتواطؤ القوى الكبرى في تغذية الحروب، من غزة إلى كشمير، ومن السودان إلى أوكرانيا. ما كان يُخشى وقوعه كحرب عالمية ثالثة، أصبح واقعًا تعيشه شعوب العالم يوميًا، بينما تتقاسم الأنظمة الاستبدادية والأنانيات الغربية الخراب، وسط صمت دولي مريب وغياب أي أفق للعدالة أو الردع.
اضف تعليقا