في ظل انشغال العالم بصفقات تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل، يتعرض وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله لخطر الانهيار، مع تزايد التوترات على الحدود اللبنانية نتيجة عدم التزام إسرائيل بالانسحاب الكامل من الجنوب اللبناني، رغم الوساطة الأمريكية التي نجحت في تحقيق التهدئة المؤقتة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

الاتفاق الذي تم بوساطة أمريكية نصّ على انسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق التي غزتها في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مقابل أن ينقل حزب الله مقاتليه وعتاده شمال نهر الليطاني، مما يتيح للجيش اللبناني بسط سيطرته على جنوب البلاد. لكن مع اقتراب موعد انتهاء المهلة المحددة للانسحاب الإسرائيلي، أعلنت حكومة بنيامين نتنياهو رفضها الامتثال للاتفاق، لتقوم الولايات المتحدة بتمديد الهدنة لمدة ثلاثة أسابيع انتهت في 18 فبراير/شباط، دون أن تلتزم إسرائيل بالخروج الكامل، إذ احتفظت بوجود عسكري في خمس مناطق استراتيجية، مما يُعتبر احتلالًا صريحًا للأراضي اللبنانية.

رئيس وزراء إسرائيل، بدعم من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يسعى لتثبيت وجود دائم في جنوب لبنان بحجة “حماية المجتمعات الإسرائيلية” المحاذية للحدود، في خطوة تعكس تبني إدارة ترامب الكامل لأجندة اليمين الإسرائيلي المتطرف. وفقًا لتقارير إسرائيلية، فإن إدارة ترامب أعطت الضوء الأخضر لنتنياهو للحفاظ على وجود عسكري طويل الأمد في لبنان، الأمر الذي قد يؤدي إلى انهيار الاتفاق وإشعال مواجهة جديدة مع حزب الله.

في خطاب له يوم الأحد، حذّر نائب الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، من أن عدم انسحاب إسرائيل بالكامل سيؤدي إلى تصعيد عسكري، مشيرًا إلى أن الاحتلال لا يمكن التعامل معه إلا “بالطريقة المعروفة”، في إشارة إلى خيار المقاومة المسلحة. تأسس حزب الله في الثمانينيات بهدف مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، وقد خاض حربًا دامت 18 عامًا أجبرت إسرائيل على الانسحاب في عام 2000، لكن يبدو أن الاحتلال يعود مرة أخرى بدعم أمريكي غير مسبوق.

على الرغم من الخسائر الفادحة التي تكبدها حزب الله خلال الأشهر الماضية، بما في ذلك اغتيال أبرز قادته العسكريين وتدمير جزء كبير من ترسانته الصاروخية، إلا أن إسرائيل قد تقع في خطأ استراتيجي كبير إذا ما استمرت في تصعيدها واحتلالها. فكما حدث في الماضي، فإن الضغط العسكري قد يؤدي إلى تعزيز المقاومة اللبنانية بدلًا من إضعافها، خاصة في ظل عجز الولايات المتحدة عن كبح جماح نتنياهو ومنعه من توسيع الحرب التي بدأها في غزة إلى لبنان.

لكن التداعيات لا تقتصر على المواجهة العسكرية، بل تهدد مستقبل الحكومة اللبنانية الجديدة التي تشكلت بعد سنوات من الجمود السياسي. الرئيس الجديد جوزيف عون، ورئيس الوزراء نواف سلام، تعهدا بإجراء إصلاحات اقتصادية كبرى وإعادة إعمار ما دمرته الحرب الأخيرة، لكن استمرار الاحتلال الإسرائيلي قد يقوّض جهودهما ويُفشل أي محاولة لإخراج لبنان من أزماته المتفاقمة. يواجه لبنان بالفعل إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم منذ عام 2019، مع انهيار العملة اللبنانية وفقدان أكثر من 98% من قيمتها، وانهيار القطاع المصرفي، وتدهور الوضع المعيشي لملايين اللبنانيين الذين يكافحون من أجل تأمين الضروريات الأساسية.

إسرائيل تحاول تصوير احتلالها على أنه إجراء دفاعي، لكن الواقع يقول إن أي وجود عسكري إسرائيلي داخل الأراضي اللبنانية سيؤدي إلى تجدد الحرب. استمرار الوجود العسكري الإسرائيلي سيؤدي إلى ضغوط داخلية متزايدة على حزب الله للرد عسكريًا، مما قد يعيد إشعال الحرب، ويؤدي إلى انهيار الاستقرار الهش في المنطقة، وحسب محللين فإن مواصلة إسرائيل لهذه السياسة الاستعمارية يعرض اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية، وعلى رأسها مصر والأردن، للخطر، وبالتالي جر المنطقة كلها لحرب شاملة.

ما يزيد الوضع خطورة هو أن ترامب لا يبدو مهتمًا بالحفاظ على التوازن في المنطقة، بل يتبنى نهجًا يقوم على إطلاق يد إسرائيل لمواصلة سياساتها العدوانية. فبدلًا من الضغط على إسرائيل للانسحاب والالتزام بالاتفاق، قدمت إدارة ترامب دعمًا غير مشروط لنتنياهو، بل إنها وافقت على استمرار الاحتلال الإسرائيلي رغم تحذيرات واسعة من تداعيات هذه الخطوة. هذا الدعم لا يقتصر على التصريحات، بل تزامن مع وصول شحنات جديدة من القنابل الأمريكية إلى إسرائيل، والتي ستستخدم بلا شك في تصعيد عملياتها العسكرية سواء في غزة أو في جنوب لبنان.

في الوقت الذي تحتاج فيه المنطقة إلى حلول سياسية مستدامة، يواصل ترامب ونتنياهو دفع الشرق الأوسط نحو مزيد من التصعيد العسكري، غير آبهين بتداعيات ذلك على المدنيين أو على استقرار دول المنطقة. في ظل هذه الظروف، يبدو أن مستقبل الهدنة بين حزب الله وإسرائيل بات في مهب الريح، مع اقتراب المنطقة من جولة جديدة من العنف قد تكون أكثر دموية وأوسع نطاقًا من سابقاتها.