بقلم: محمد المحمودي 

في قلب أوروبا التي طالما تغنّت بحرية التعبير ورفعت شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، يتكشف مشهد صارخ للنفاق الأخلاقي والسياسي. ففي برلين وباريس، حيث وُلدت مفاهيم “الحق في الاعتراض” و”كرامة الكلمة”، يتم اعتقال الطلاب، وقمع المتظاهرين، وملاحقة الأصوات التي تدافع عن غزة، فقط لأنهم يرفضون الصمت على الإبادة الجماعية.

 ألمانيا: الطلاب في قبضة القمع

في جامعة هومبولت العريقة ببرلين، اعتقلت الشرطة الألمانية مجموعة من الطلاب بعد أن احتجوا سلمياً على المجازر في غزة، ونددوا بخطط ترحيل ناشطين مؤيدين لفلسطين. استخدمت الشرطة القوة لاقتحام مبنى الجامعة، مزّقت اللافتات، واعتقلت المحتجين، في مشهد يعيد إلى الأذهان صفحات مظلمة من التاريخ الألماني ذاته.

كل ذلك لأنهم تجرأوا على القول: “أنتم متواطئون في الإبادة الجماعية”، ولأنهم علّقوا لافتات كتبوا عليها: “لا يوجد سوى دولة واحدة وهي فلسطين” و*”المقاومة حق دولي”*.

فأيّ ديمقراطية تلك التي تخاف من الكلمات وتطارد الطلاب بالسلاح والقانون؟

 فرنسا: الصحفيون تحت النار… والمتضامنون في الشوارع

في باريس ومارسيليا، خرج مئات الصحفيين والنشطاء في مظاهرات رمزية احتجاجاً على استشهاد أكثر من 210 صحفيين في غزة منذ بدء العدوان، في مشهد هو الأكثر دموية في تاريخ الصحافة الحديثة.

تحت شعارات “غزة: وجوه وليست أرقامًا”، و”لن نصمت.. هناك إبادة جماعية”، عبّر المتظاهرون عن ألمهم وغضبهم، بينما تستمر آلة الحرب الإسرائيلية – المدعومة غربيًا – في استهداف كل من يحمل كاميرا أو يسجل الحقيقة.

رئيس نقابة الصحفيين الفلسطينيين في أوروبا وصف ما يحدث بأنه “إبادة جماعية”، أما الاتحاد الدولي للصحفيين فقالها صراحة: “إن حق العالم في الوصول إلى المعلومة مهدد بشكل غير مسبوق”. ورغم ذلك، لا نرى تحركاً جدياً من الحكومات الأوروبية. ازدواجية الخطاب.. من دعم أوكرانيا إلى قمع غزة

المفارقة الكبرى تكمن في أن ذات الأنظمة التي فتحت أبوابها لدعم المقاومة الأوكرانية، ومنحت الضوء الأخضر لكل تظاهرة مناهضة لروسيا، تقمع اليوم المتضامنين مع غزة، وتُطلق يد الشرطة لتفريق التظاهرات، وتفرض رقابة على الجامعات والمؤسسات الإعلامية.

فهل حرية التعبير حقّ انتقائي؟

وهل الضحايا يجب أن يكونوا من “النوع المقبول سياسيًا” حتى يحصلوا على التعاطف والدفاع؟

 صوت الضمير أقوى

رغم محاولات الترهيب، لا تزال أصوات الطلاب والصحفيين في الغرب تشق جدران الصمت الرسمي، وتكشف هشاشة القيم التي لطالما استخدمها الغرب سلاحًا في وجه خصومه، لكنه تخلّى عنها حين تعلق الأمر بفلسطين.

اليوم، بات واضحاً أن مظاهر التضامن مع غزة لم تعد مجرد موقف أخلاقي، بل اختبار حقيقي لمصداقية الغرب كله.

إذا كان الحديث عن الإبادة والعدالة أصبح جريمة في برلين، وإذا كان الدفاع عن حياة الصحفيين يُعد “تحريضاً” في باريس، فإن على العالم أن يعيد النظر في من يقف فعلاً مع الحرية، ومن يتخذها قناعًا لتبرير تحالفاته الدموية.

حان الوقت لنكفّ عن تقديس خطاب الحريات الغربي الأجوف، وأن ننتصر للحق، لا لمن يملك امتياز تعريفه.