تراها قطعة قماش مرقّطة باللونين الأبيض والأسود، تمتلك قيمة معنوية عالية لدى الفلسطينيين، حتى أن البعض يصفها بأنها علم الدولة غير الرسمي.
الكوفية هي تجسيد للقضية الفلسطينية على مر السنين، النسيج البسيط الذي يبلغ طوله متر مربع، المطوي بشكل تقليدي على شكل مثلث والملفوف فوق رأس الرجال الفلسطينيين الريفيين، أصبح اليوم أيقونة مناصرة للقضية تلتف حول أعناق نشطاء حقوق الإنسان، والمتظاهرين المناهضين للحرب، ونجوم الرياضة، والمشاهير، رجالاً ونساء، تجاوزت الجنس والدين والجنسية.
يقول محمد وليد، 49 عاماً، من القدس إنه لا يزال يتذكر والده وأعمامه وهم يرتدون الكوفية في طفولته، مضيفاً “كانت الأجيال الأكبر سناً ترتديه على رؤوسهم… لقد بدأت في ارتدائها في سن المراهقة، ولكن كوشاح حول رقبتي… بالنسبة لي، فهي تمثل الكفاح والقضية الفلسطينية”.
رياض حلق، 62 عاماً، من القدس، يحمل قصة مشابهة، حيث يقول: “إنها تقليد فلسطيني… بدأت في ارتدائها عندما كان عمري 11 عاماً، وما زلت أرتديه اليوم في أيام خاصة مثل ذكرى النكبة.. إنها جزء من هويتي “.
في حين أن مكانة الكوفية كرمز للشعب الفلسطيني أمر لا جدال فيه، إلا أن أصولها تعود إلى العراق.
الكلمة نفسها مشتقة من “الكوفة”، في إشارة إلى المدينة العراقية التي تقع جنوب بغداد على طول نهر الفرات، لكن لا يُعرف سوى القليل عن أصل ظهورها هناك.
تشير إحدى الروايات إلى أنها ظهرت في القرن السابع، أثناء معركة بين القوات العربية والفارسية بالقرب من الكوفة، وقيل إن العرب استخدموا الحبال المصنوعة من وبر الإبل لتأمين أغطية رؤوسهم وللتعرف على رفاقهم في خضم المعركة، وبعد فوزهم، تم الاحتفاظ بغطاء الرأس للتذكير بانتصارهم.
يقول آخرون إن هذه القماشة، الذي يُطلق عليها أحيانًا اسم “الحطة” في بلاد الشام، له أصول تسبق الإسلام ويمكن إرجاعه إلى بلاد ما بين النهرين، عندما كان يرتديه الكهنة السومريون والبابليون منذ حوالي 5000 عام.
في حواره مع “ميدل إيست آي”، يقول آنو لينغالا، مؤلف كتاب “تاريخ الكوفية الاجتماعي والسياسي” إن “أصول الكوفية مفتوحة للتكهنات… حتى وقت قريب جداً، لم تكن هذه التصميمات مأخوذة على محمل الجد كمواضيع للبحث الأكاديمي… كان الاهتمام فقط بالأشياء المصممة التي ترتبط بالنخبة والثروة، أما الكوفية كانت مرتبطة تقليدياً بالطبقات العاملة”.
رمز للنضال
على الرغم من عدم ارتباطها بالوضع الاجتماعي، إلا أن جذور الكوفية الحديثة في فلسطين كانت منتشرة بصورة أساسية بين الفلاحين، والعمال الريفيين، وكذلك البدو، كانوا يلبسونها فوق رؤوسهم لتغطية مؤخرة رقبتهم وحماية أنفسهم من حرارة شمس الصيف وبرودة الشتاء.
وبحسب لينغالا: “تغطية الرأس مبدأ مهم في الثقافة الفلسطينية التقليدية”، مضيفاً “[الكوفية] تتيح التهوية من خلال جيوب هوائية ناتجة عن طيات في القماش”.
بينما الفلسطينيون الأكثر تعليماً، أو الحضريون، أو “الأفندية”، كانوا يرتدون ما يُعرف بالطربوش، وهي قبعة ذات لون أحمر غامق أشاعها الحاكم العثماني محمود الثاني واعتمدها السكان المحليون كجزء أساسي من اللباس”.
بعد خسارة الإمبراطورية التركية لأراضيها في الشرق الأدنى خلال الحرب العالمية الأولى، والثورة العربية ضد الحكم الاستعماري البريطاني عام 1936، استخدم القوميون الفلسطينيون الكوفية أيضاً كوسيلة لتغطية وجوههم لإخفاء هويتهم وتجنب الاعتقال حيث كان يرتديها الثوار، ما دفع البريطانيون لحظر ارتدائها، وبدلاً من استجابة الفلسطينيون لهذا القرار، وفي “لحظة محورية في الثقافة الفلسطينية”، اتحد الفلسطينيون في تعميم ارتداء “الحطة” للجميع كدليل على التضامن، لتظل رمزًا أساسيًا للأمة الفلسطينية بعد النكبة وإقامة دولة إسرائيل.
صرحت مها ساكا، رئيسة مركز التراث الفلسطيني في بيت لحم، لموقع ميدل إيست آي: “تخلى الفلسطينيون من جميع الطبقات الاجتماعية عن الطربوش واتحدوا حول ارتداء الكوفية، مما جعل من الصعب التعرف على الثوار”.
وحول ذلك علقت المؤرخة الثقافية جين تاينان قائلة “استخدمت [الكوفية] في الثورة كأداة لإخفاء هوية مرتديها من السلطات البريطانية، أصبحت الكوفية اختصاراً للنضال الفلسطيني”.
اتفق لينغالا مع هذه النقطة مضيفاً “مع استمرار تهديد الهوية الجماعية للفلسطينيين وحقهم في الأرض … سعوا إلى التمسك بالعناصر التي تضمن الاستمرارية الثقافية “.
بعد سنوات من النكبة، تحديداً في الستينيات، ساهم الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بتعريف الجمهور العالمي بالكوفية، وبحسب ساكا: “أبو عمار (عرفات) ما كان ليُرى في أي مكان أو مناسبة من دونها”.
كان ياسر عرفات دائماَ ما يرتدي الكوفية بطريقة فائقة العناية، حيث كان يرتديها فوق رأسه مع وضع الطرف الأطول للنسيج على كتفه الأيمن – يقول البعض إنه وُضِع ليشبه خريطة فلسطين ما قبل 1948.
عندما حظرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي العلم الفلسطيني من عام 1967 حتى اتفاقيات أوسلو في عام 1993، اتخذ الوشاح رمزية قوية، وفقًا لما ذكره تيد سويدنبرغ، أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة أركنساس.
يقول سويدنبرغ “مع العَلم الذي حظره الاحتلال لمدة 30 عاماً تقريباً، فإن الكوفية، التي ارتبط بها الكثير من الرموز والتاريخ الغني، كانت تستخدم يوميًا كنوع من التعبير البصري عن الهوية الفلسطينية “.
قمح، زيتون، عسل
يُقال إن النقاط السوداء على القطن الأبيض تحمل العديد من المعاني الرمزية، وعلى الرغم من عدم التحقق من أي منها، إلا أنه تم تقديم العديد من التفسيرات والتحليلات لتلك النقاط.
وصفها البعض بأنها “شبكة صيد، أو قرص العسل، أو اتحاد الأيدي، أو علامات التراب والعرق التي تمسح من جبين العامل”، فيما اقترح آخرون أن التصميم يمثل سنابل القمح، في إشارة إلى أريحا، إحدى أبرز المدن المعروفة بزراعة الحبوب.
أضاف الفنان الفلسطيني فارجو تبخي “الأسلاك الشائكة” إلى القائمة، موضحاً أن “هذه الأسلاك هي الرمز الدائم للاحتلال”، على الرغم من ارتباطه بشكل كبير بتصميم شبكة الصيد، والتي تسمى أيضاً الفتحة.
ألوان أخرى
يُعتقد أنها صُنعت في الأصل من الصوف، قبل إدخال القطن من الهند ومصر، لذلك لا تزال الكوفية – التي تسمى أيضًا الشماغ في الأردن وسوريا، والغترة في دول الخليج – إنها رمز عربي بشكل واضح، ولكنها غير دينية، حيث يرتديها العرب في جميع أنحاء المنطقة بألوان وتصاميم مختلفة باختلاف دياناتهم، مسلمون، مسيحيون، ودروز وعلمانيون.
في حين أن الوشاح الفلسطيني والسوري أسود وأبيض، فإن البعض الآخر له أنماطه الخاصة.
موضة عالمية
بدأ الطلاب والنشطاء المناهضون للحرب في جميع أنحاء العالم في تبني الكوفية الفلسطينية كجزء من الحركة المناهضة للحرب في الستينيات والسبعينيات، يقول سويدنبرغ إنها تجاوزت العالم العربي في هذا الوقت وأصبحت لباسًا مفضلاً بين المتظاهرين السياسيين والرافضين للحروب، ورمزًا للمقاومة التي يرتديها المناهضون للإمبريالية، مثل الزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو.
أيقونة الأغاني
إن تسويق الكوفية لم يقلل بأي حال من قيمتها الثقافية في نظر الفلسطينيين، على سبيل المثال، أصرّت مغنية الراب الفلسطينية البريطانية شادية منصور على ضرورة الاعتراف بالارتباط الرمزي للكوفية بالهوية الفلسطينية وتذكره، وقد أشارت إلى الوشاح في عملها، حيث أطلقت أول أغنية منفردة لها بعنوان “الكوفية عربية” في عام 2010.
كما فاز الفنان الفلسطيني محمد عساف في برنامج المواهب أراب أيدول عام 2013 بأغنيته “علي الكوفية” أي “ارفع كوفية” التي أصبحت أيقونة للأغاني الوطنية، وفي 2018، قام الفنان الفلسطيني مهند خلف، بإصدار أغنية “فلسطين-تاج الراس” بتقديم راقصين يرتدون الكوفية ويؤدون رقصة الدبكة التقليدية على أنغام الأغنية.
للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا
اضف تعليقا