لابد وأن يكون ولي العهد “محمد بن سلمان” قد احتار عند قراءة رد “دونالد ترامب” على هجوم 14 سبتمبر/أيلول الصاروخي على منشأتين نفطيتين سعوديتين.

وقال “ترامب” آنذاك: “هناك سبب للاعتقاد أننا نعرف الجاني… لكننا ننتظر أن نسمع من المملكة حول من يعتقدون أنه وراء هذا الهجوم”.

وأثارت فكرة أنه يتعين على المملكة العربية السعودية تحديد كيفية استجابة الولايات المتحدة أسئلة أساسية حول فوائد الشراكة الأمريكية السعودية.

علاوة على ذلك، أثار ترك “ترامب” قيادة الملف للرياض أسئلة حول قدرة المملكة على صياغة استراتيجية أمنية متماسكة.

وفي الواقع، تعتمد فكرة أنه ينبغي على واشنطن أن تنتظر إشارة الرياض، وأنه “يجب المضي قدما معها تحت أي شروط”، على أن القادة السعوديين يعرفون ما يفعلونه، ولديهم رؤية واضحة حول كيفية تحقيق أهدافهم، ويسعون لتحقيق أهداف تتفق مع المصالح الأمريكية، لكن كل هذه افتراضات مشكوك فيها.

وهناك 3 أسباب على الأقل لعدم وجود استراتيجية سعودية متماسكة؛ أولا، تفتقر الرياض إلى القدرة الاستراتيجية والعسكرية للتصدي للتحديات الأمنية التي تطرحها إيران، وفي الواقع، تتألف السياسة الأمنية السعودية، بتوجيه من “بن سلمان”، من أعمال مرتجلة أدت إلى نتائج كارثية في اليمن.

ثانيا، تضع المملكة أمنها الخاص على كاهل إدارة أمريكية تتبع سياسة غير متسقة تماما تجاه إيران، وبينما دفعت الرياض من أجل قرار من “ترامب” بإعادة فرض العقوبات على إيران، وبالتالي شن حرب اقتصادية على الجمهورية الإسلامية، فإن تلك الحرب بالذات دفعت طهران إلى تبني استراتيجية التصعيد العسكري، التي لا يوجد لدى البيت الأبيض علاج عسكري واضح لها حتى الآن.

ثالثا، تعد الطريقة الوحيدة لكي يعالج البيت الأبيض هذا الوضع الخطير هو الموازنة بين الخطوات العسكرية المعقولة، والدبلوماسية القوية متعددة الأطراف التي تبقي آفاق المفاوضات قائمة، وهو ما لا يبدو أن الإدارة تفعله حتى الآن.

وترفض إدارة “ترامب” التركيز على الدبلوماسية خشية أن يُنظر إليها على أنها تتسامح مع ما يرى النقاد أنه إفلات إيراني من العقاب، لكن جهود البيت الأبيض لإظهار مصداقية الردع الأمريكي تستبعد حقيقة أن قرار “ترامب” الطائش للانغماس في الطموحات السعودية والإسرائيلية لإسقاط نظام إيران هي التي استدعت الأزمة الحالية.

ويقدم رحيل مستشار الأمن القومي السابق “جون بولتون”، إلى جانب دعوات “ترامب” إلى ضبط النفس، بصيصا من الأمل بأن البيت الأبيض قد يقنع أخيرا أصدقاءه الإقليميين بأن السياسة الأمريكية المتعلقة بإيران يتم إعدادها في واشنطن وليس عواصم الشرق الأوسط.

كارثة اليمن تُفشل الدبلوماسية السعودية

وفي تدخلهما في الحرب الأهلية في اليمن، أعلنت السعودية والإمارات أن هدفهما هو إعادة حكومة الرئيس اليمني “عبدربه منصور هادي”، التي تم إجبارها على الخروج للمنفى بعد أن اجتاح الحوثيون صنعاء في يناير/كانون الثاني 2015، ولكن من المؤكد أن كلا من الدولتين قد جلبت وجهة نظر وأولويات مختلفة تماما في تدخلها.

وكان الدافع وراء تورط الرياض هو العداء الدائم تجاه إيران، الذي استند إلى عوامل طائفية ومخاوف استراتيجية، ونظرا لتفاقم مخاوفهم من النفوذ الإيراني، وبموازاة حملة الضغط الأمريكية على طهران، رأى القادة السعوديون، بمن فيهم ولي العهد الجديد، في هزيمة جميع التهديدات “الموالية لإيران” في الداخل وفي الدول الحدودية، أمرا ضروريا لبقاء المملكة.

وعلى النقيض من ذلك، نظرت الإمارات إلى التدخل باعتبارات أكثر واقعية. ومع كونهم يحكمون دولة تجارية حديثة لها علاقات تجارية مع إيران، وهي دولة لا تتطلع إلى زعامة دينية بعكس السعودية، رأى القادة الإماراتيون استعادة حكومة “هادي” كهدف جيواستراتيجي حيوي، على الرغم من أنه ليس له علاقة تذكر بمواجهة إيران أو إحباط النفوذ الشيعي.

وترجع خسارة السعودية لنفوذها في اليمن حقيقة أن الإمارات وقوات المرتزقة التابعة لها قد تحملت وحدها وطأة الحرب البرية، في حين اعتمدت السعودية على الطلعات الجوية المدمرة مع ما تتسم به من سلامة نسبية.

ومع ذلك، بحلول صيف عام 2019، أدت الأولويات الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية المتباينة بين البلدين إلى دفع الإمارات إلى البدء في خفض قواتها في اليمن، والتواصل مع إيران، في محاولة لعلاج التصدع الذي يهدد مصالحها الخاصة.

ووصلت الأمور إلى ذروتها في أغسطس/آب، عندما طالبت حكومة “هادي” بطرد الإمارات من التحالف.

وإذا كان هناك الكثير من الأشرار في سيناريو اليمن الكارثي، فمن المؤكد أن القادة السعوديين، من بين هؤلاء الأشرار، حيث تعثروا في مستنقع هائل دون استراتيجية خروج.

وتشير التقارير إلى أنه في مايو/أيار 2017، أبلغ “بن سلمان” مسؤولين أمريكيين أنه يريد “الخروج” من اليمن، ومع ذلك، فإنه انضم بعد شهر إلى الإمارات والبحرين في مقاطعة قطر، وبالتالي أرسل صورة سيئة عن دبلوماسية الرياض.

وبشكل سريع، يبدو أن إدارة “ترامب” قد بدأت محادثات مع قادة الحوثيين، وتحاول حتى حث الرياض على التفاوض، وفي ظل صراع البيت الأبيض المتصاعد مع طهران، تبدو واشنطن غير راغبة أو غير قادرة على كسر عادتها بالرجوع إلى الرياض، وبالتالي فإنها تراهن على علاقة تعمل في الواقع لصالح إيران.

تحالف “ترامب – بن سلمان” يضع إيران في وضع السيطرة

وليس هناك شك في أن “بن سلمان” وزملاءه يتمنون أن تتلاشى الجمهورية الإسلامية تماما، ومع ذلك، من خلال دعم قرارات رئيس الولايات المتحدة المدفوعة برغبته في عكس عكس تركة سلفه، ساعد القادة السعوديون في التمكين لسياسة أمريكية جديدة تفاقم التهديدات الأمنية للمملكة الآن بدلا من أن تقللها.

ويجب أن يكون السبب الأساسي في أن المملكة العربية السعودية أصبحت الآن في وضع أسوأ مما كانت عليه في مايو/أيار 2018 عندما انسحب “ترامب” من الاتفاق النووي واضحا؛ حيث كانت الجهود الأمريكية لإجبار إيران على إعادة التفاوض على الاتفاق النووي لعام 2015 بمثابة ستار دخاني لاستراتيجية إدارة “ترامب” لتغيير النظام.

وفي مواجهة الحرب الاقتصادية التي شنتها الإدارة الأمريكية، ضغط المتشددون الإيرانيون على وزير الخارجية “محمد جواد ظريف”، الذي لعب دورا محوريا في الاتفاق النووي لعام 2015، وأجبروه على القبول باستراتيجية محفوفة بالمخاطر تتمثل في التصعيد الخاضع للسيطرة.

وربما ظن “ظريف” أن هذه الاستراتيجية قد تحفز المزيد من المسؤولين الأمريكيين البراغماتيين، بمن فيهم “ترامب”، على أخذ فكرة المفاوضات على محمل الجد، لكن المتشددين ينظرون إلى التصعيد المتحكم فيه، ليس كتكتيك للضغط من أجل المحادثات، وإنما كوسيلة لدق مسمار آخر في نعش العلاقات الأمريكية الإيرانية.

وبعد أن راقبوا “ترامب” يلغي هجوما عسكريا أمريكيا سابقا كان قد أمر به في البداية بعد إسقاط إيران لطائرة مراقبة أمريكية بدون طيار، في يونيو/حزيران، يراهن المتشددون على أن بإمكانهم تصعيد الصرع بأمان إلى مستويات أعلى، وبالنسبة للمرشد الأعلى “علي خامنئي”، وحلفائه في الحرس الثوري الإسلامي، فإن التصعيد مبني على ضعف أظهرته الولايات المتحدة.

وكما أبلغ مسؤولون في البنتاغون البيت الأبيض، فإن الرد العسكري الأمريكي قد يفتح الباب أمام نزاع ممتد من شأنه أن يقوض أمن القوات الأمريكية في جميع أنحاء الشرق الأوسط وخارجه.

ولم تتسرع المملكة العربية السعودية نفسها في اتهام إيران مباشرة بارتكاب هجمات 14 سبتمبر/أيلول، وهو ما يوحي بأن الرياض لم تكن حريصة على رؤية واشنطن تتدخل بطريقة قد تؤدي إلى نتيجتين كلاهما سيئ للرياض، فإما أن تهاجم الولايات المتحدة إيران وتثير حريق واسع النطاق من شأنه أن يوقف جميع شحنات النفط عبر مضيق هرمز، أو أن تتراجع الولايات المتحدة عن فرض كلفة عسكرية كبيرة على إيران، ما يشير للمنطقة بأكملها إلى تراجع قدرة واشنطن على ردع التهديدات الإيرانية.

وفي الحقيقة، فإن هذا السيناريو الثاني هو ما حدث بحكم الواقع، وهو ما لاحظه القادة في عواصم الشرق الأوسط وواشنطن بالتأكيد، ومع ذلك، لا ينبغي أن يحجب ما حدث نقطة أساسية، وهو أن الأمر لا يدور حول إفلات إيران من العقاب ولكن حول سياسات “ترامب” الحمقاء التي أنتجت أزمة مصداقية الولايات المتحدة الحالية.

وعندما تساعد السياسة الأمريكية في استدعاء التهديدات التي لا تجد واشنطن أمامها سوى القليل من الخيارات العسكرية الجيدة للتعامل معها، يتعذر الحفاظ على قوة الردع الأمريكية أمام احتمالات التصعيد الإيراني. ويكون نتاج ذلك الأزمة الحالية التي تعانيها الولايات المتحدة والسعودية.

تحديات صعبة في واشنطن وطهران والرياض

ويجادل بعض منتقدي سياسة “ترامب” تجاه إيران بأن البديل عن المحاولة المستمرة لإخماد النيران المستعرة، التي ساعد البيت الأبيض في إشعالها في الأساس، ربما يكون متابعة نسخة معدلة من اتفاق أوباما النووي الأصلي.

ومن الواضح أن هناك العديد من العقبات التي تحول دون الانتقال من سياسة الولايات المتحدة المتمثلة في الخصومة غير الفعالة إلى التعامل الفعال مع طهران.

وعلى الجانب الأمريكي، لا يتمثل التحدي في ترويض الدافع الجامح لـ”ترامب” لجعل السياسة الخارجية الأمريكية متسرعة وعدوانية، لكن المهمة الأكبر مؤسسية وسياسية.

وهناك حاجة ملحة لتسمية فريق عمل داخل الإدارة مهمته هي تحديد شروط اتفاق مجد دبلوماسيا مع إيران، وتحديد الخطوات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية التي يجب أن يتم اتخاذها لتأمين الدعم في الشرق الأوسط والساحة العالمية الأوسع لهذا الاتفاق.

ويجب أن تشمل هذه الخطوات إرسال إشارة إلى السعودية بأن البيت الأبيض لن يستجيب لرغبات الرياض بشأن إيران أو غيرها من التهديدات الإقليمية، بما في ذلك تلك التي يشكلها الحوثيون في اليمن.

وفي الوقت الحالي، لا يوجد دليل على أن الإدارة لديها الإرادة السياسية المطلوبة لهذا النوع من التفكير الاستراتيجي العميق والإجراءات السياسية الجريئة.

وعلى الجانب الإيراني، سيتعين على وزير الخارجية “ظريف”، والرئيس “حسن روحاني”، إقناع المرشد الأعلى “خامنئي” بأن إيران ستكسب أكثر مما ستخسره بالعودة إلى المفاوضات.

وخلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، يبدو أن “ظريف” كان يختبر المياه الدبلوماسية قبل الرجوع إلى “خامنئي”، وهكذا، في مقابلة تم إجراؤها معه في 24 سبتمبر/أيلول، بدا أنه يمد غصن زيتون صغير لكنه واعد، حين أكد أنه “يمكن للولايات المتحدة أن تتعامل مع إيران بشكل أفضل إذا بدأت في التحدث إليها على أساس الاحترام والحوار”.

وتجدر الإشارة إلى أن “خامنئي” لم يمنع في الواقع إجراء محادثات مع الولايات المتحدة، كما ورد على نطاق واسع في وسائل الإعلام الغربية، وبدلا من ذلك، فإنه يصر على أنه لا يمكن إجراء مفاوضات ما لم تلتزم الولايات المتحدة أولا بالاتفاق النووي، وتتراجع عن سياسة “أقصى ضغط”.

وهذه هي النقطة الأساسية التي كررها “ظريف” منذ هبوطه في نيويورك، وقد فعل ذلك مع العلم أنه سيكون من المستحيل عمليا على “ترامب” أن يوافق على هذه الاقتراحات، وطالما ظل الحال كذلك، سيكون من غير المرجح أن يدعم المرشد الأعلى المحادثات مع هذه الإدارة.

وحتى الآن، ليس لدى السعوديين سبب يدعو للقلق من أن “ترامب” سوف يتوقف عن التقيد برغبات الرياض، وفي الواقع، قبل شهرين ونصف من هجوم 14 سبتمبر/أيلول، التقى “ترامب” مع “بن سلمان” في قمة مجموعة العشرين، حيث قلل من التواطؤ السعودي في اغتيال الصحفي السعودي “جمال خاشقجي”، بينما أشاد مجددا بولي العهد السعودي. وبالنظر إلى ذلك، فإن قرار الولايات المتحدة بإرسال المزيد من القوات إلى المملكة يناسب “بن سلمان” بقدر ما يناسب “ترامب”.

ولا يريد أي من الزعيمين الحرب مع إيران، لكن كلاهما يرحب بالخطوة التي يمكن اعتبارها نوعا من تحسين الردع دون تعريض دول الخليج لمخاطر غير ضرورية، ودون إجبار المملكة على وقف عملياتها العسكرية في اليمن.

قول “لا” للسعودية

وفي حين أن آفاق الدبلوماسية الأمريكية الإيرانية باهتة لا تزال باهتة، فإن المصالح الأمريكية لن يتم خدمتها بشكل أفضل من خلال الاستمرار في اتباع الخط السعودي.

وفي الواقع، لا تبقى الظروف التي دفعت إيران إلى التصعيد عسكريا في الخليج قائمة فحسب، ولكن مع إحراز تقدم محدود في المحادثات الأوروبية الإيرانية، فسوف يكون لدى الحرس الثوري الإيراني، وحلفائه الإقليميين، المزيد من الحوافز لشن ضربات ضد المصالح السعودية أو مصالح الولايات المتحدة.

فما الذي يمكن عمله؟ في حين أنه من غير الواقعي أن نتوقع من إدارة “ترامب” إعادة صياغة استراتيجيتها الشاملة لإيران، إلا أن على البيت الأبيض أن يبقي الباب مفتوحا أمام إمكانية إجراء محادثات. وبجانب ذلك، ستكون الدبلوماسية الهادئة، المدعومة من الأوروبيين والصين وروسيا، ضرورية.

علاوة على ذلك، يحتاج البيت الأبيض إلى التواصل مع جميع اللاعبين الإقليميين الرئيسيين للتأكيد على أن واشنطن هي التي تحدد شروط سياستها في الشرق الأوسط. وسيتطلب ذلك التراجع عن الاعتناق المختل لخيارات السعودية، الأمر الذي شجع الرياض على متابعة مشروعها العسكري المريع في اليمن.

وقد يوفر عدم الرضا في الكونغرس عن الفظائع التي ارتكبتها المملكة في اليمن حافزا لدفع عملية تفاوضية مدعومة دوليا بين جميع القوى المحلية الرئيسية.

وكان الهدف من اتفاق “استكهولم” في ديسمبر/كانون الأول 2018 هو إنشاء إطار للمحادثات لكنه فشل لعدة أسباب، بما في ذلك تصميم الرياض على تحقيق نصر عسكري مستحيل على الحوثيين.

ومن خلال دفع الرياض للحوار مع خصومها، قد تساعد إدارة “ترامب” في نزع فتيل الصراع الإقليمي الذي عزز القدرات العسكرية للحوثيين، ناهيك عن علاقاتهم بطهران، ولكن هذا لن يحدث إلا إذا تخلى البيت الأبيض عن فكرة أن الرياض هي التي يجب أن تخبر واشنطن كيف تمضي قدما.