تعيش مصر حاليا زخم “زفة إعلامية” كبيرة ، تتناول المبادرات المتتالية والتي تبشر بتخفيف معاناة المرضى بتمويل من تبرعات المواطنين من خلال صندوق تحيا مصر . في حين تعاني المنظومة الصحية في مصر من تدهور مستمر يشعر به المواطنون والفريق الصحي من قصور في الخدمة بسب نقص موازنة الصحة ،وبالتالي اختفاء عناصر البنية التحتية من مبانٍ، وتجهيزات، وآلات ،وأدوات ،ومستلزمات ،مع الارتفاع المتتالي في أسعار الأدوية واختفاء الكثير من الأصناف الحيوية للمرضى خاصة الأمراض المزمنة . في حين تزداد معاناة الفريق الصحي بسبب سوء بيئة العمل وتدني الأجور ونقص التدريب والتأهيل .

وفي الحقيقة فإن هذه المبادرات لاتعدو أن تكون مجرد إجراءات لحظية قد ينتج عنها حالة نجاح جزئية تجذب الأنظار ولكنها لاتغير كثيرا من الواقع المتردي .مثال:

أولا :

مبادرة “نور حياة” لمكافحة العمى: حيث توجد العديد من المشكلات التي تصيب العيون مثل “المياه البيضاء والزرقاء” ،ومشاكل القرنية ،والعدسات ،والشبكية وغيرها ،والتي تتطلب توفير قاعدة بيانات واضحة ومحددة وفقًا لضوابط معينة والعمل في إطار واضح لتحقيق الأهداف، لأنه من المهم تحديد الرقم الذي يعاني من ضعف الإبصار والوصول إلى حد العمى، وتوفير العلاج اللازم لحالتهم. كما أن الفحص الطبي المتخصص لا بد أن يكون في مراحل مبكرة لأطفال “الحضانات” لمكافحة العمى لدى هؤلاء الأطفال، لأن هذه الحالات عندما تصل إلى سن المدارس قد تعاني من ضعف الإبصار ،مما يتسبب في إحباطهم. مع ضرورة مد الفحص منذ الولادة وليس عند دخول المدارس، فضلًا عن أهمية تطبيق آليات التنفيذ في القطاع الخاص والحكومي والجامعي في الوقت ذاته، ، خاصة وأن مصر وقعت على اتفاقيات دولية لمكافحة العمى القابل للعلاج بحلول عام 2020، ولكن تلك الاتفاقيات لم تكن مفعله بالطريقة الصحيحة بسبب نقص الاعتمادات المالية التى تضمن الاستمرارية . ولابد من تسخير كافة الموارد الحكومية  المستمرة وليس الاعتماد على التبرعات فقط.

ثانيا :

مبادرة إنشاء ألف وحدة غسيل كلوي بمبلغ مليار جنيه من تبرعات صندوق تحيا مصر : نعم قد يتم شراء الماكينات وتركيبها ولكن هذا لايعني كفاءة التشغيل نظرا لغياب استمرارية التمويل لتوفير الصيانة الدورية اللازمة . وكارثة وفاة مرضى الغسيل الكلوي في مستشفى ديرب نجم شرقية في منتصف شهر سبتمبر 2018 بسبب سوء الصيانة مازالت حاضرة بقوة . كما أن المبادرة لم تذكر كيفية توفير الأعداد اللازمة من أعضاء الفريق الطبي المدرب وتأهيله وتحفيزه ، ولم تذكر شيئا عن توفير مستلزمات التشغيل وديمومة تواجدها خاصة وأن التمويل مصدره غير دائم ويرتكز على تبرعات المواطنين .

إصلاح المنظومة الصحية يرتكز فى الأساس على زيادة موازنة الصحة لضمان استمرارية تقديم الخدمة لأن التبرعات ليست مصدرا يمكن الارتكاز عليه في التمويل الدائم ، خاصة وأن دستور 2014 قد وضح الحد الأدنى للموازنة بحيث لايقل عن نسبة 3 % من إجمالي الناتج المحلي لمصر بما يوازى مبلغ لايقل عن 155 مليار جنيه للعام الحالي 18/2019. في حين أن المبلغ المعتمد فعليا هو 62.5 مليار جنيه فقط يشمل بداخله على 16 مليار جنيه مخصصات للمياه والصرف الصحي . وعلى هذا فإن المخصص للصحة فعليا لايتجاوز نسبة 1.2 % فقط  ، ومن ناحية أخرى فإن مشكلة النقص الحاد في أعداد الأطباء والتمريض قد ظهرت بوضوح وأجبرت وزيرة الصحة على إعلان أن 60 % من الأطباء قد تركوا مصر وسافروا للخارج . وأعلنت السيدة نقيب عام التمريض عن الاحتياج إلى 100 ألف من أعضاء الهيئات التمريضية لسد العجز الحالي والذي يؤثر سلبا على كفاءة تقديم الخدمة الصحية ، وجميع هذه الاحتياجات لايمكن أن يتم حلها من خلال تلك المبادرات .

ومن الملاحظ أن وزيرة الصحة مثل باقي الوزراء تبدأ تصريحاتها بجملة نمطية مكررة وهي : ” أنه بناء على التوجيهات الرئاسية وطرح المحددات الصحية فقد صدرت التعليمات ” ، وهذا يعني ببساطة أن السادة الوزراء وكبار المسئولين ليس لديهم سياسة واضحة وإجراءات عملية محددة في إطار جدول زمني .ويكتفون بالعمل بصفتهم مجرد سكرتاريه تسمع التوجيهات وتنفذ التعليمات بصورة جزئية مرحلية دون وجود استراتيجيات واضحة المعالم ،وغياب تام عن رفع الواقع وإدراك متطلباته .

دكتور / مصطفى جاويش

28يناير 2019