في تطور صادم جديد، أثار منح “موانئ أبوظبي” الإماراتية حق تطوير وتشغيل منطقة صناعية ولوجستية بمساحة 20 كيلومتراً مربعاً عند مدخل قناة السويس الشمالي جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والاقتصادية والشعبية المصرية.

الاتفاق الموقع مع الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، بحضور رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، منح المجموعة الإماراتية امتيازاً يمتد لـ50 عاماً قابلة للتجديد، فيما وصفه كثيرون بأنه “بيع موارب” لجزء من سيادة البلاد لصالح طرف خارجي.

ورغم الترويج الرسمي للمشروع باعتباره خطوة نحو جذب الاستثمارات وتعزيز التنمية، إلا أن ما خفي من شروط الاتفاق وموقعه الحساس على بوابة قناة السويس أثار موجة من القلق بشأن تفريط نظام عبد الفتاح السيسي في أصول الدولة الحيوية.

فهل نحن أمام إعادة إنتاج “امتياز قناة السويس” بنسخة معاصرة؟ وهل هذه الخطوة تمثل ذروة مشروع بيع مصر لصالح أطراف إقليمية؟

المشروع في ظاهره استثمار.. وفي جوهره احتلال اقتصادي

الاتفاق ينص على منح “موانئ أبوظبي”، الذراع البحرية لصندوق أبوظبي السيادي الذي يديره طحنون بن زايد، حق الانتفاع لمدة نصف قرن، لتشييد وتشغيل منطقة صناعية تحت مسمى “كيزاد شرق بورسعيد”، تبدأ على مساحة 2.8 كلم²، وتضم رصيف شحن بطول 1.5 كلم. 

المثير للدهشة أن الجانب الإماراتي لم يُلزم بضخ استثمارات محددة للمشروع، مكتفياً برقم ضئيل لا يتجاوز 120 مليون دولار كتكلفة دراسات وبنية تحتية أولية.

ما فجر موجة غضب واسع هو ما كشفه رئيس الهيئة الاقتصادية لقناة السويس، وليد جمال الدين، في مداخلة متلفزة، حين أكد أن مصر ستحصل فقط على 15% من “إيرادات” المشروع، وليس من أرباحه، وهو ما يعني أن الحكومة ستتحمل تكاليف البنية التحتية دون ضمانة لعائد مجزٍ، بل إن القانون رقم 32 لعام 2014 يحصّن هذا الاتفاق من أي طعن قضائي، حتى لو ثبت الإضرار بمصالح الدولة.

خبراء الاقتصاد وصفوا الاتفاق بـ”المعيب”، إذ يجعل من مصر مجرد وسيط غير منتج، يوفر الأرض والموقع والبنية، بينما يحتكر الطرف الإماراتي العوائد والصلاحيات كاملة. 

وقال المستشار الأممي والخبير الاقتصادي الدكتور إبراهيم نوار إن الاتفاق “يُفرّط في ثروة وطنية استراتيجية، ويضع حدودنا البحرية والاقتصادية تحت وصاية خارجية قابلة للتمدد”.

خريطة التمدد الإماراتي في مصر.. من رأس الحكمة للعريش

 لم يكن هذا المشروع معزولاً عن سياق أوسع يتمثل في توسع إمبراطورية “موانئ أبوظبي” داخل البنية البحرية المصرية. 

فخلال السنوات الخمس الأخيرة، وقّعت المجموعة الإماراتية عشرات الاتفاقيات لتشغيل موانئ حيوية، من الإسكندرية شمالاً، مروراً بالعين السخنة، إلى الغردقة وسفاجا وشرم الشيخ، وصولاً إلى ميناء العريش في سيناء.

والمفارقة أن هذه الامتيازات الضخمة تأتي في وقت تصمت فيه الدولة المصرية عن دخول رؤوس أموال إسرائيلية إلى هذه المشروعات عبر واجهات إماراتية أو شركات متعددة الجنسيات، كما لمّح سياسيون ومحللون، ما يعمق المخاوف بشأن اختراق الأمن القومي في أخطر مفاصله.

الخبير الاقتصادي نوار وصف هذا التمدد بـ”الاحتلال الاقتصادي الناعم”، مشيراً إلى أن الإمارات باتت تسيطر فعلياً على مداخل ومخارج قناة السويس. فيما قال الكاتب مجدي الحداد إن “حق الانتفاع لـ50 سنة، قابلة للتجديد، يعني عملياً تنازلاً عن السيادة”، متسائلاً إن كانت هذه الخطوة تمهد لخصخصة القناة نفسها، تماماً كما حدث في القرن التاسع عشر حين فرّط الخديوي سعيد في حفر القناة للشركة الفرنسية.

غطاء قانوني للتفريط.. ومؤشرات على انهيار السيادة الوطنية

واحدة من أخطر النقاط في هذا الاتفاق، والتي فجرها العديد من النشطاء القانونيين والاقتصاديين، هي أن هذه العقود محصّنة من الطعن القضائي، بموجب قانون أصدره الرئيس المؤقت عدلي منصور عام 2014، وطوره السيسي لاحقاً، ويمنع الجهات الرقابية أو حتى المواطن المصري من الاعتراض على أي صفقة تبرمها الدولة مع مستثمر أجنبي، حتى لو كانت مجحفة.

هذا القانون الذي يتناقض مع أكثر من 9 مواد دستورية، جعل مصر “سوقاً مفتوحة بلا رقيب”، بحسب وصف عدد من الخبراء، بينما تكرر الحكومة سردية “الاستثمار والتطوير” لتبرير كل صفقة تفريط جديدة.

الناشط السياسي زياد العليمي شبّه ما يحدث باتفاق حفر قناة السويس عام 1856، الذي انتهى باحتلال بريطاني دام 74 عاماً.

فيما تساءل آخرون إن كانت الإمارات باتت تشكل “الخزانة الخلفية” لحكم السيسي، تُغدق الأموال مقابل امتيازات جغرافية قد تؤسس لنفوذ طويل المدى في عمق الدولة المصرية.

هل السيسي يبيع البلاد؟ وإلى أين تسير مصر؟

ردود الفعل الغاضبة على الاتفاق تُعيد طرح تساؤلات مقلقة حول مستقبل السيادة المصرية، في ظل تكرار نمط واحد: عقود طويلة الأمد، نسب أرباح متدنية، تحصين قانوني، تغييب للشفافية، واستهداف لمواقع استراتيجية.

فهل هذا مجرد استثمار اقتصادي؟ أم إعادة رسم لخريطة النفوذ في مصر تحت عباءة الاستثمارات الخليجية؟

العارفون بدهاليز السياسة والاقتصاد في مصر يجمعون على أن ما يجري ليس مجرد مشروع تجاري، بل خطة ممنهجة لتفكيك ملكية الدولة، وبيع ما تبقى من أصولها لشركاء خارجيين مقابل استمرار النظام الحالي في الحكم بأي ثمن.

من تيران وصنافير، إلى النيل، إلى قناة السويس، تتكرر حلقات مسلسل التنازل والتفريط بلا حساب.

اقرأ ايضًا : الجزائر تُهاجم الإمارات: بيان رسمي يصفها بـ”الدويلة” واللقطاء