في قلب الولاية الشمالية بالسودان، يتردد صدى الجفاف في الحقول كما يتردد صدى الرصاص في المدن، إذ لا تقتصر كوارث الحرب على الدمار في الميادين، بل تمتد إلى باطن الأرض وأوردة النيل التي جفّت عن عمد.

في بلدٍ كان يوصف يومًا بأنه سلة غذاء إفريقيا، بات المزارعون اليوم يواجهون كارثة مزدوجة: الحرب التي تمزق البلاد، والتجويع الذي يُطوّقهم بصمت.

الجفاف كعقوبة جماعية: المزارعون في مرمى الحرب

من قرية “تنقاسي” على تخوم مصر، يتحدث المزارع حاتم أحمد عبد الحميد عن خسارة تفوق 70% من محصوله هذا العام، ليس بفعل قحط طبيعي، بل بسبب توقف مضخات الري التي تعتمد على الكهرباء، بعد أن طال القصف محطات التوليد الرئيسية. فمنذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، تهاوت بنية السودان الحيوية، بما فيها خطوط الكهرباء التي كانت تُغذّي مشاريع الري في الشمال.

وباتت زراعة النيل رهينة الحرب، إذ بلغت تكلفة ري المحاصيل عبر المولدات التي تعمل بالديزل نحو 20 ضعف ما كانت عليه قبل الحرب، وهو عبء لا يستطيع المزارعون تحمله. يقول حاتم، وهو ينظر إلى حقوله الذابلة: “كانت الري تكلّف 3 آلاف جنيه، واليوم تصل إلى 70 ألفاً… لم نعد نزرع، بل نخسر ما زرعناه”.

انهيار الأمن الغذائي وتحوّل الأراضي إلى مقابر زراعية

الأمر لا يقتصر على حاتم وحده. يؤكد المزارع عبد الحليم الزبير أن ثلاثة مواسم زراعية مرت عليه دون إنتاج فعلي، تاركة أرضه شبه قاحلة، وتكلفة الري تقفز من 10 آلاف إلى 150 ألف جنيه سوداني. هذه الأرقام لم تعد مجرد بيانات، بل علامات على تحوّل الشمال السوداني، أحد أكثر الأقاليم الزراعية خصوبة، إلى منطقة منكوبة اقتصادياً وغذائياً.

وفي ظل غياب الدعم الحكومي وارتفاع أسعار الوقود والبذور والأسمدة، حذر الخبراء من أن الموسم الزراعي المقبل قد يشهد انهياراً تاماً، مع عجز مئات آلاف المزارعين عن زراعة أراضيهم. دراسة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمعهد الدولي لأبحاث سياسة الغذاء أكدت أن 35% من الأسر الريفية توقفت عن الزراعة تمامًا في العام 2024.

والأخطر من كل ذلك، أن هذا التوقف القسري عن الزراعة لا يُنذر فقط بارتفاع أسعار المواد الغذائية، بل بمجاعة حقيقية باتت تطرق أبواب الولاية الشمالية وولايات أخرى.

الإمارات: الراعي الخفي للحرب وتجفيف السودان

رغم أن أصابع الاتهام غالبًا ما تشير إلى طرفي النزاع الداخلي، إلا أن تقارير موثقة وشهادات متقاطعة تُظهر أن السبب الأعمق لهذه الكارثة ليس فقط الحرب بحد ذاتها، بل الأطراف الخارجية التي غذّتها واستثمرت في خراب السودان. وتتصدر الإمارات قائمة هذه الدول، من خلال دعمها السخي وغير المشروط لقوات “الدعم السريع”، وتسليحها وتغذيتها لوجستيًا عبر مطارات خاصة في ليبيا وتشاد.

ويُعدّ محمد بن زايد أحد أبرز اللاعبين في هذا المشهد الدموي، عبر استراتيجية خبيثة تقوم على زعزعة الاستقرار في الدول التي لم ترضخ بعد للهيمنة الاقتصادية والسياسية الخليجية، وخاصة تلك التي تملك موارد استراتيجية كالأراضي الخصبة والمياه.

في هذا السياق، كشف تقرير لمجموعة “كونفلكت أرممنت ريسيرش” عن شحنات أسلحة مصدرها الإمارات وصلت إلى قوات الدعم السريع عبر طرق غير رسمية، وأشار إلى أن هذا الدعم لعب دورًا رئيسيًا في إطالة أمد الحرب وتدمير البنية التحتية، بما في ذلك المحطات الكهرومائية التي كانت تمد مناطق الشمال بالطاقة.

واللافت أن هذا التدمير الممنهج يصب في مصلحة استراتيجية أوسع تتبعها أبوظبي في السودان، تهدف إلى الاستحواذ على أراضٍ زراعية بأسعار زهيدة، بعد أن يُجبر المزارعون على بيعها هربًا من الخسائر والجفاف. إنها عملية احتلال ناعم تستغل الكارثة وتحوّل المأساة إلى فرصة استثمارية.

التصحر والبيئة المنهارة: السودان يخسر أرضه وإنسانه

لم تكن الحرب وحدها السبب في تجفيف أراضي المزارعين، فالنزوح الجماعي الذي سبّبته المعارك أدى إلى زيادة القطع الجائر للأشجار لاستخدامها كمصدر للطاقة، كما تم تحويل أراضٍ رعوية إلى زراعية من دون تخطيط، مما زاد من وتيرة التصحر. ويقول الباحث عبد الفتاح حامد علي إن خسائر السودان في القطاعين الزراعي والصناعي خلال العامين الماضيين بلغت أكثر من 170 مليار يورو.

هذا التدهور البيئي المتسارع لا يهدد الأمن الغذائي فقط، بل ينسف كل إمكانية للتعافي على المدى القريب، خصوصًا أن الدولة السودانية في حالة انهيار مؤسساتي شامل، ولا تملك خططاً للإنقاذ أو إعادة الإعمار.

ختامًا: بلد على شفا المجاعة بتوقيع الحرب والإمارات

مع دخول الحرب عامها الثالث، يبدو أن السودان لا يُحكم فقط من خلال السلاح، بل يُخنق عبر سياسة التجويع والاستنزاف. ما يحدث في الولاية الشمالية ليس مجرد أزمة زراعية، بل هجوم منظم على مصدر رزق ملايين البشر، يتم بتمويل خارجي وبتواطؤ داخلي.

إن الحرب لم تجفف فقط مياه النيل في تنقاسي، بل تجفف حياة السودانيين بأكملها. والأخطر أن الخراب لا يتوقف عند حدود السلاح، بل يمتد ليشمل الأرض والزرع والإنسان، وكل ذلك يحدث تحت أنظار العالم، بينما الإمارات تمضي في مشروعها التوسعي مستثمرة في الدمار.

اقرأ أيضًا : الإمارات تغذي المجاعات.. تقرير أممي يحذر: غزة والسودان وسوريا والصومال على شفا الكارثة