تعيش مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، تحت رحمة هجمات متجددة تشنها قوات الدعم السريع المدعومة إماراتيًا، ضمن سعيها المحموم للسيطرة الكاملة على المدينة، التي تعد آخر معاقل الجيش السوداني في إقليم دارفور.
وبحسب إفادة الإعلام الحربي للفرقة السادسة مشاة، ارتفع عدد ضحايا القصف العشوائي الذي نفذته هذه القوات بالمدفعية الثقيلة، أول أمس الأحد، إلى 47 قتيلاً مدنيًا، بينهم عشر نساء، في جريمة تضاف إلى سجل طويل من المجازر والانتهاكات.
وما زالت قوات الدعم السريع تحاصر المدينة منذ شهور، في محاولة لاستكمال إحكام قبضتها على الإقليم، بعد استعادة الجيش السوداني للعاصمة الخرطوم الشهر الماضي.
ومع كل يوم يمر، تتسع رقعة المأساة الإنسانية، في ظل انهيار تام للبنية التحتية، وعجز المجتمع الدولي عن فرض أي شكل من أشكال الردع على المليشيات التي تتلقى دعماً لوجستيًا وتسليحيًا مباشراً من الإمارات، وفقاً لتقارير حقوقية وتحقيقات صحفية سابقة.
الخراب يتسع.. قصف على المخيمات وتدمير لآخر الملاذات
فجر اليوم، شنت قوات الدعم السريع هجمات مدفعية جديدة استهدفت أطراف مدينة الفاشر، حيث طال القصف مناطق غرب المدينة ومخيم “أبو شوك” الواقع شمالي الفاشر.
ويأتي هذا التصعيد بعد أيام فقط من مجزرة مروعة في مخيمي “زمزم” و”أبو شوك” القريبين، والتي أودت بحياة أكثر من 400 شخص، وتسببت بنزوح جماعي لما لا يقل عن 400 ألف إنسان، بحسب الأمم المتحدة.
ويُعد مخيم “زمزم” من بين أكبر مراكز الإيواء في الإقليم، إذ كان يضم ما يصل إلى مليون نازح من مختلف مناطق دارفور.
غير أن آلة الحرب حولته إلى مقبرة جماعية ومسرح لانتهاكات جسيمة، شملت بحسب تقارير أممية القتل الممنهج، والاعتداءات الجنسية، والتشريد القسري، ما دفع معظم النازحين إلى الفرار شمالًا نحو الفاشر، أو إلى بلدة “طويلة” الواقعة على بعد 60 كيلومتراً إلى الغرب.
وتشير المعلومات الواردة من الميدان إلى أن قوات الدعم السريع استهدفت عمدًا مراكز تجمع المدنيين في هذه المخيمات، في محاولة لإفراغ محيط الفاشر من الحاضنة البشرية التي قد تُشكّل حزامًا دفاعيًا للجيش، أو تشكّل عائقًا أمام تقدّمها.
صمت دولي وتواطؤ إماراتي
في خضم هذا التصعيد الدموي، أكد المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، أن المنظمة الأممية تتلقى تقارير “مروعة” من الفاشر ومخيم زمزم، تتحدث عن “القتل والعنف الجنسي والنزوح الجماعي”، مشيرًا إلى أن “الاحتياجات الإنسانية في ولاية شمال دارفور باتت هائلة”.
ومن جهة أخرى، تحدث توم فليتشر، وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية، هاتفيًا مع كل من قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، ونائب قائد قوات الدعم السريع عبد الرحيم دقلو، حيث تعهّد الطرفان – شكليًا – بالسماح بإيصال المساعدات الإنسانية.
إلا أن الوقائع على الأرض تشير إلى استمرار الحصار ومنع الإمدادات، في ظل التقدم السريع للدعم السريع المدعوم إماراتيًا، وفقًا لتحقيقات نُشرت سابقًا في صحف أمريكية وبريطانية حول نقل الأسلحة والعتاد من أبو ظبي إلى المليشيات عبر تشاد وليبيا.
وتؤكد تقارير ميدانية وأممية وجود نمط ممنهج من الانتهاكات ترقى لجرائم حرب، تمارسها قوات الدعم السريع والمليشيات الحليفة لها، المدعومة لوجستيًا واستخباراتيًا من نظام محمد بن زايد.
وتشير هذه التقارير إلى استخدام سياسة “الأرض المحروقة” في مناطق النزاع، حيث تُستهدف المستشفيات ومخازن الأغذية ومراكز الإيواء، ما يدفع المدنيين إلى الفرار القسري، أو الموت البطيء تحت الحصار.
وقد أدى النزاع المستمر منذ 15 أبريل/نيسان 2023، إلى مقتل عشرات الآلاف ونزوح 13 مليون شخص، لتُسجّل السودان أكبر أزمة إنسانية على مستوى العالم من حيث النزوح، بحسب توصيف الأمم المتحدة.
وتحول الصراع إلى حرب إقليمية بالوكالة، قُسّمت خلالها البلاد فعليًا إلى مناطق نفوذ؛ فالجيش يسيطر على الشمال والشرق، بينما تسيطر الدعم السريع على دارفور، وجنوب البلاد بدعم من مليشيات محلية وعناصر مرتزقة.
من يتحمّل المسؤولية؟
المآسي المتواصلة في الفاشر تطرح سؤالًا وجوديًا: من المسؤول عن إطالة أمد هذه الحرب؟ في حين يوجّه السودانيون أصابع الاتهام إلى الدعم السريع كمسبب مباشر للمجازر، فإن النظام الإماراتي يواجه اتهامات جدية بتغذية الصراع عبر تسليح وتدريب هذه القوات، ضمن مخطط جيوسياسي توسعي يعيد تشكيل خارطة النفوذ في السودان على حساب المدنيين.
وبينما يكتفي المجتمع الدولي بإصدار بيانات “قلق” أو “إدانة”، تبقى مدينة الفاشر مهددة بمصير مشابه لما جرى في الجنينة من قبل، حيث تحولت الأخيرة إلى مدينة أشباح، بعد حملة تطهير عرقي نفذتها نفس القوات العام الماضي، وأُدرجت على إثرها جرائم دارفور ضمن ملفات “الإبادة الجماعية” المنظورة أمام المحكمة الجنائية الدولية.
في الوقت ذاته، يواجه القادة العسكريون في السودان، وعلى رأسهم البرهان، انتقادات واسعة لتقاعسهم في حماية المدنيين، والتعامل برد فعل بطيء مع الهجمات، ما يزيد من معاناة السكان ويطرح تساؤلات عن قدرة الدولة السودانية على إدارة الحرب وإنهائها.
هل تنجو الفاشر؟
بين نيران مليشيات الدعم السريع، وتواطؤ دول إقليمية على رأسها الإمارات، وعجز دولي صارخ، تبقى مدينة الفاشر عنوانًا للفشل الجماعي في حماية المدنيين ووقف الانهيار الشامل في السودان.
وتُحذر منظمات إنسانية من أن تكرار سيناريو “الجنينة” في الفاشر سيقضي على آخر ما تبقى من مؤسسات مدنية في دارفور، ويفتح الباب أمام عمليات إبادة جماعية جديدة. وفي الوقت الذي يحتاج فيه ملايين النازحين إلى الغذاء والدواء والمأوى، تواصل المليشيات المدعومة إماراتيًا زحفها الدموي، غير عابئة بأي دعوات للتهدئة.
لقد تحوّلت الفاشر إلى ساحة اختبار حقيقية لضمير العالم، ومصداقية المجتمع الدولي، الذي يبدو عاجزًا أو متواطئًا في وقف حمام الدم، وسط صمت عربي رسمي مطبق، وتجاهل صارخ لواحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في القرن الحالي.
اقرأ أيضًا : ثلث السودانيين نازحون.. هذا ما اقترفته يد بن زايد
اضف تعليقا