خلال كلمته في منتدى FII Priority Europe 25 أعلن ياسر الرميان، محافظ صندوق الاستثمارات العامة السعودي أن المملكة “لن تستثمر في القطاع المالي السويسري مرة أخرى”، في إشارة واضحة إلى انعدام الثقة بالمنظومة القانونية والمالية الأوروبية التي لطالما استنزفت أموال الخليج ثم تبرأت منها بقوة القانون.
وجاء هذا التصريح على خلفية الفضيحة التي تفجّرت بعد انهيار بنك كريدي سويس، أحد أعرق البنوك السويسرية، حيث خسر البنك الأهلي السعودي، أحد أكبر البنوك في المملكة وأحد استثمارات الصندوق السيادي، مليارات الريالات نتيجة هذا الانهيار.
لم تكن خسارة الصندوق السيادي السعودي في بنك كريدي سويس مجرد خسارة عابرة أو استثمار ثانوي، بل كانت ضربة موجعة بالنظر إلى أن الصندوق كان يمتلك نحو 5٪ من أسهم البنك، ما يجعله من أكبر المساهمين فيه. هذه النسبة تعني أن الصندوق لم يكن مراقبًا من بعيد، بل كان شريكًا أساسيًا في الكيان المصرفي السويسري، ومع ذلك لم يُؤخذ رأيه، ولم يُحترم موقعه حين قررت السلطات السويسرية فجأة شطب 17 مليار دولار من السندات وتغيير قانون مالي عمره 150 عامًا في ليلة وضحاها.
ووفقًا للرميان، فإن الانهيار أضرّ مباشرةً بكبار المستثمرين، وعلى رأسهم مجموعة العليان السعودية، التي تكبّدت خسائر تقدّر بـ15 مليار ريال، في حين خسر البنك الأهلي السعودي أكثر من 4 مليار ريال. وأضاف الرميان بنبرة حاسمة أن “القطاع المالي السويسري لم يعد جذابًا للاستثمار”، ليكشف الستار عن حالة من الغضب داخل الدوائر المالية الخليجية تجاه ما يعتبرونه نصبًا مقننًا مغلفًا ببريق الديمقراطية الأوروبية.
وما يزيد من خطورة الموقف أن هذه الخسارة لم تأتِ من استثمار فردي عشوائي، بل من ضمن خطة ممنهجة بدأت منذ 2017، حيث ضخّ صندوق الاستثمارات العامة أكثر من 85 مليار دولار في اقتصادات أوروبا، وخلق أكثر من 245 ألف وظيفة هناك، ويطمح لرفع هذا الرقم إلى 328 ألف فرصة عمل بحلول عام 2030، وفقًا لتصريحات الرميان نفسها، لكن المفارقة أن هذه المليارات لم تخلق سوى المزيد من البطالة في الداخل، والمزيد من الازدهار في الخارج.
ويطرح هذا الواقع تساؤلات حادة:
هل تحوّل الصندوق السيادي السعودي إلى ماكينة تمويل للغرب؟ وهل تم التضحية بثروات الأجيال القادمة من أجل صورة زائفة عن الانفتاح والاستثمار؟ وما الفائدة من ضخّ 170 مليار دولار بحلول 2030 في أوروبا بينما يعاني الشباب في الداخل من البطالة وسوق العمل يئن تحت وطأة الترفيه والرياضة والاستهلاك؟
ما حدث مع كريدي سويس ليس مجرد أزمة، بل صفعة مدوية على وجه كل من راهن على عدالة القانون الغربي، خاصة وأن التجربة أثبتت أن القانون هناك لا يُحترم إلا إذا خدم مصالحهم، وأن أموال الخليج مرحّب بها فقط عندما تكون صامتة وخاسرة، أما إذا حاولت الاعتراض فمصيرها الحرق، وباسم القانون.
إن هذه الخسائر ليست سوى حلقة من سلسلة استنزاف طويلة طالت الأموال الخليجية في أوروبا وأميركا، سواء في البنوك، أو العقارات، أو حتى شركات التقنية والإعلام، وما حدث في كريدي سويس ليس حادثًا منفردًا، بل هو نموذج صارخ لما تواجهه الاستثمارات الخليجية في أوروبا وأمريكا: نصب مقنن، وسرقة بأوراق قانونية مختومة. الأموال تُرحَّب بها عند الدخول، وتُجرد من قيمتها عند الأزمات، دون أي حماية حقيقية أو ضمانات عادلة.
من العقارات إلى المصارف إلى شركات التكنولوجيا، تتكرر القصة: الخليج يدفع، والغرب يربح، والقانون يُعاد صياغته كل مرة لتتمكن حكوماتهم من النصب واستنزاف مزيد من الأموال. هذا هو المصير الذي ينتظر كل استثمار خليجي خارجي لا يُبنى على مصالح متوازنة، بل على وهم الشراكة مع أنظمة لا ترى فينا سوى ممولين بلا سلطة ولا وزن.
والسؤال الأهم الآن:
متى يدرك صناع القرار أن الاستثمار الحقيقي يبدأ من الداخل؟ ومتى تتوقف مغامرات شراء الشرعية الغربية على حساب لقمة المواطن العربي؟
اضف تعليقا