قبل عشر سنوات، وتحديدًا في 23 مارس 2015، وقف عبدالفتاح السيسي مبتسمًا، ممسكًا بأيدي رئيس وزراء إثيوبيا ورئيس السودان السابق عمر البشير، عقب توقيع ما سُمي بـ”اتفاق إعلان المبادئ حول سد النهضة”، في مشهد رُوّج له إعلاميًا على أنه انتصار دبلوماسي كبير، بل و”حل نهائي لأزمة مياه النيل”.
واليوم، وبعد عقد كامل من ذلك الاتفاق، لم يتحقق شيء من تلك الوعود، بل تفاقمت الأزمة وأصبحت مصر والسودان في وضع أكثر هشاشة مما كانا عليه قبل الاتفاق. بل يمكن القول بصراحة: ما حدث في 2015 لم يكن سوى “توقيع على التفريط”.
السيسي.. صاحب التوقيع الأخطر في التاريخ المصري الحديث
أخطر ما في اتفاق إعلان المبادئ أنه لم يكن اتفاقًا مُلزِمًا يحمل ضمانات حقيقية لمصر والسودان، بل كان بمثابة “ورقة عرفية” استخدمتها إثيوبيا كمفتاح للحصول على التمويل الدولي، بعدما كانت البنوك والمؤسسات الدولية قد جمّدت تمويل السد نتيجة الرفض المصري والسوداني الواضح قبل 2015.
لكن بمجرد توقيع الاتفاق، تغيرت لهجة العالم، واستأنفت إثيوبيا بناء السد بدعم مباشر من الصين، والبنك الدولي، والاتحاد الأوروبي، لتصل بتكلفة بناءه إلى 4.7 مليار دولار، وتبدأ خطوات تعبئة خزانه دون الرجوع إلى أحد.
السيسي، حينما وقّع على هذا الاتفاق، فعل ذلك دون العودة للبرلمان، أو حتى فتح حوار مجتمعي حول أخطر قضية تواجه مصر وجوديًا منذ عقود.
لم يكن الأمر صفقة بسيطة، بل اعتراف مصري مكتوب بحق إثيوبيا في بناء السد، دون ضمانات حقيقية لملء السد أو تشغيله، وهو ما سمح لأديس أبابا بأن تملأ السد خمس مرات متتالية، دون التوصل إلى أي اتفاق ثلاثي ملزم.
منذ توقيع السيسي، تحولت مصر من دولة لها “حق تاريخي” في مياه النيل إلى طرف “يطالب” باتفاق، بينما تقف إثيوبيا على الأرض تفرض الأمر الواقع، وهكذا سقطت ورقة القوة القانونية، وتحولت إلى ورقة سياسية ضعيفة، تُستخدم فقط للاستهلاك المحلي.
لقد فقدت القاهرة موقعها القوي الذي حافظ عليه كل من عبد الناصر، والسادات، ومبارك، الذين لم يسمحوا حتى ببدء نقاش حول السد.
انهيار الإرادة المصرية.. وتراجع الدور الإقليمي
الاتفاق لم يكن فقط تراجعًا قانونيًا، بل شكّل نقطة تحوّل في المكانة الإقليمية لمصر. الدولة التي كانت تُعتبر “زعيمة إفريقيا والعرب”، أصبحت اليوم تبحث عن وسطاء لإقناع إثيوبيا بالجلوس على طاولة الحوار، وتستجدي دعم الحلفاء الخليجيين أو الأوروبيين دون طائل.
بينما تواصل إثيوبيا حديثها بثقة، مؤكدة أنها لن تلحق الضرر بدولتي المصب، في الوقت الذي تملأ فيه السد عامًا بعد عام، وتبني عليه مشاريع طاقة وتخزين، بل وتخطط الآن لإنشاء شبكة سدود خلفية، ستكون بمثابة “قنبلة مائية” في وجه السودان.
الواقع المرير يُظهر أن مصر، منذ توقيع الاتفاق، فقدت أحد أهم عناصر قوتها: الإرادة المستقلة. فالنظام الحالي، الغارق في قضايا داخلية اقتصادية وأمنية، لم يتعامل مع الملف باعتباره “مسألة أمن قومي”، بل جعله ورقة ضمن صفقات العودة للاتحاد الإفريقي، أو محاولة تحسين العلاقات مع الغرب.
لقد قال السيسي يومًا: “لن يُمس ماء النيل، وهذه ليست مياه للتفاوض”. لكنه بعد أسابيع قليلة، وقّع بيده على إعلان مبادئ يساوي بين إثيوبيا ودولتي المصب، ويمنح أديس أبابا اليد العليا دون أي مكاسب مقابلة.
هذه ليست مبالغة، بل اعتراف ضمني من النظام نفسه، حيث قال وزير الري المصري في مارس 2024 إن مصر تعتمد على النيل في 98٪ من مواردها المائية، وتعاني من نقص بنسبة 55٪ في احتياجاتها.
خسائر السودان.. بين السد وغياب الأولويات
أما السودان، فلم يكن حاله أفضل، بل ربما أسوأ في بعض الجوانب. ففي الوقت الذي كان يجب أن يتعامل مع السد كقضية أمن وطني، وجد نفسه في حالة حرب أهلية منذ 2023، وأصبحت قضية سد النهضة في ذيل قائمة الأولويات.
ولأن الخرطوم لا تمتلك نظامًا سياسيًا مستقرًا منذ سنوات، فقد انقسمت المواقف بين فترات تأييد للسد لأغراض الطاقة، وأخرى للرفض بسبب مخاطر الفيضان.
السودان الآن يواجه خطرًا حقيقيًا، يتمثل في احتمالية استخدام إثيوبيا للسد كأداة ضغط سياسي أو أمني.
وفي ظل غياب الاستقرار السياسي، ووقوع البلاد في حرب داخلية، فإن ملف المياه أصبح مهددًا بالإهمال، مما يعرض أراضيه وسكانه على ضفاف النيل الأزرق لخطر فيضان مفاجئ، أو عطش دائم.
الوضع الراهن، بحسب المحلل السوداني وائل نصر الدين، يكشف أن حسن النوايا وحده لا يكفي، وأن إثيوبيا استغلت الاتفاق لأهدافها، ولم تكن ترغب فعليًا في التفاهم.
بل إن الدعم الدولي للمشروع الإثيوبي يؤكد أنه لم يكن مشروعًا فنيًا بقدر ما كان ورقة استراتيجية في مواجهة مصر والسودان، ضمن سياقات سياسية دولية تشمل ملفات مثل قناة السويس، وفلسطين، والعلاقات مع الصين وروسيا.
هل ما زال هناك أمل؟
في ظل اكتمال بناء السد، وتعبئته فعليًا، لم تعد الخيارات العسكرية متاحة كما كانت قبل سنوات. السد يحتوي الآن على مليارات الأمتار المكعبة، وضربه يعني كارثة على السودان أولًا، ثم مصر ثانيًا.
الحل الوحيد الآن، هو العودة إلى التفاوض، لكن هذه المرة من موقع قوة، لا من موقع الاستجداء.
مصر بحاجة إلى إعادة تعريف أولوياتها الوطنية، وأن تفصل بين الدولة والنظام، وأن تعود لقيادة تحترم العقل والخبرة لا الأوامر والتهليل. إن ملف سد النهضة لا يحتاج سوى إلى إرادة سياسية مستقلة، وخبراء قانونيين ودبلوماسيين يعيدون بناء موقف قانوني ودولي قوي.
لقد خسرنا الكثير خلال عشر سنوات: خسرنا المياه، وخسرنا الحق، وخسرنا الهيبة، وخسرنا الثقة. لكن الأسوأ أننا خسرنا فرصة كان يمكن أن تكون لنا، لو لم نوقع على ورقة التفريط بأيدينا.
السيسي هو المسؤول الأول عن هذه الكارثة
لا يمكن الحديث عن خسائر مصر دون تحميل المسؤولية لمن تسبب فيها. عبدالفتاح السيسي، هو أول من وقّع، وهو من حمل الاتفاق كإنجاز، وهو من وعد ولم يفِ، وهو من فرّط في مياه النيل.
واليوم، بعد عقد من الزمن، تتحدث التقارير الرسمية عن “فقر مائي مدقع”، ومشاريع تحلية مكلفة، وملايين الفلاحين المهددين بالبطالة، وبلد يعتمد بنسبة 98٪ على نهر النيل.
سد النهضة ليس مجرد مشروع هندسي، بل هو عنوان لفشل سياسي، وأداة ضغط جيوسياسي، وشهادة على تراجع مصر عن دورها ومكانتها. لقد وقّع السيسي على أسوأ اتفاق في تاريخ مصر الحديث، وكان هذا التوقيع هو أول مسمار في نعش الأمن المائي المصري.
ربما يكون التفاوض هو الخيار الوحيد المتاح الآن، لكن لا جدوى منه دون إرادة حقيقية، ودون مراجعة جذرية للمسار الذي أوصلنا إلى هنا. مصر تحتاج إلى نظام يحترم حقوقها، لا يفرّط فيها باسم التفاهم أو الواقعية السياسية. فمياه النيل ليست للتفاوض، بل للبقاء.
اقرأ أيضًا : على كرسي متحرك.. قصة جندي سوري تحدى الموت بشجاعة لا تُقهر
اضف تعليقا