منذ أن تدخلت روسيا في سوريا عام 2015 لإنقاذ رئيس النظام بشار الأسد من السقوط عقب ثورة شعبية كانت على وشك الإطاحة به، ركزت موسكو على استمالة المكون المسيحي إلى مليشياتها، وقامت بدعمه عسكريا ولوجستيا ليصبح لاحقا تابعا لها مباشرة.

وما إن أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في اليوم السادس عشر لغزوه أوكرانيا، فتح الباب أمام المتطوعين للقتال إلى جانب القوات الروسية حتى خرجت تلك المليشيات المسيحية معلنة استعدادها للمشاركة في المعركة.

 

خزان مسيحي

وخرج كل من قائدي مليشيا “الدفاع الوطني” في مدينة السقيلبية بريف حماة الغربي، نابل العبد الله، وسيمون الوكيل في مدينة محردة بذات الريف، في 7 مارس 2022 مع جموع من العناصر معلنين استعدادهم بشكل كامل للقتال في أوكرانيا.

وتعد مدينتا السقيلبية ومحردة ذواتي غالبية مسيحية، وتشكلت فيهما مليشيات قاتلت إلى جانب قوات الأسد، قبل أن تنتقل هذه المليشيات إلى الكفة الروسية وتصبح مدعومة عسكرية من قبل قاعدة حميميم الجوية في مدينة اللاذقية، التابعة للقوات الجوفضائية الروسية.

وعقب التدخل العسكري الروسي، جوا وبرا وبحرا في 30 سبتمبر 2015، بهدف الوصول إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط، بدأ ضباط قاعدة حميميم بكسب ولاء مليشيات السقيلبية ومحردة حتى أصبحوا تابعين رسميا لها.

وجدت مليشيا “الدفاع الوطني” في نوفمبر 2012، بأمر إيراني وأسسها العميد في فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني حسين همداني، والذي قتل في 9 أكتوبر 2015 في محافظة حلب.

وهي عبارة عن قوات رديفة لقوات النظام السوري، شكلت من عناصر مدنيين وعسكريين غير منضبطين لمساندة الأخير خلال عملياته العسكرية.

ولاحقا انقسم ولاء تلك المليشيا بين إيران وروسيا، حيث تبنت الأخيرة كثيرا من أفرادها ودعمتهم لوجستيا وعسكريا وأصبحوا تابعين لها بشكل مباشر.

وخرج قائد المليشيا العبد الله بتسجيل مصور في 13 مارس 2022، أكد فيه أن عناصره جاهزة للقتال في أوكرانيا، لكنها تنتظر “التوجيهات الروسية”.

وأضاف: “نحن بسوريا وما زلنا ننتظر التوجيهات من روسيا، نحن مستعدون للحرب في أوكرانيا ولدينا خبرة في قتال الشوارع، نحن جاهزون لإلغاء أحادية القطب ولتسجيل الأسماء ضمن الذين يسجلون التاريخ الجديد”.

وتزامن ذلك مع إخراج النظام السوري شريحة من قواته النظامية، معلنا وبشكل صريح تلبية “دعوة بوتين” والاستعداد لإرسال مرتزقة للقتال مع الجيش الروسي الذي بدأ غزو أوكرانيا في 24 فبراير 2022.

ونشرت صحيفة الغارديان البريطانية تقريرا في 19 مارس 2022 تحت عنوان “السوريون ينضمون لصفوف الروس، في أوكرانيا، وبوتين يطالب الأسد برد الجميل”، واعتبرت أن النظام السوري دشن عملية تجنيد جديدة.

وبينت الصحيفة أن هؤلاء “طليعة لما يمكن اعتباره، أكبر عملية لتجنيد المرتزقة برعاية حكومية في العالم، وخلال أيام يمكن أن ينتشر الجنود السوريون على خطوط الاشتباك في أوكرانيا، لتعزيز الجبهات الروسية المعطلة”.

 

رؤية روسية

وكانت إشارات اهتمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالمسيحيين في سوريا ذات اعتبارات سياسية واضحة. إذ طلب بوتين من بطريرك موسكو وسائر روسيا “كيريل” بعدم نسيان “الجنود الروس الذين ضحوا بسوريا”، وذلك خلال قداس “للصلاة” أقيم بعد يوم من إعلان وزارة الدفاع الروسية في 10 يوليو 2016 مقتل طيارين روسيين بإسقاط مروحية “مي-25” قرب تدمر بريف حمص الشرقي.

وسبق لـ “كيريل” أن قال إن “حمل المسيحية على الخروج من سوريا؛ سيؤدي إلى كارثة حضارية”، وذلك أثناء لقاء عقده بوتين في 25 يوليو 2013 بموسكو مع رؤساء الكنائس المحلية الأرثوذكسية.

وعقب التدخل العسكري الروسي اعتبر “كيريل” أنه جاء بهدف “حماية الشعب السوري من العلل التي جلبها الإرهابيون”، زاعما أن “الشعب الأرثوذكسي رصد العديد من حوادث العنف ضد المسيحيين في المنطقة”. كما وصفت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية التدخل العسكري الروسي في سوريا حينها بأنه “معركة مقدسة”.

وظهر الرهبان وهم يقومون بـ “تعميد” الطائرات الحربية الروسية، قبل إقلاعها لدك المدن السورية فوق رؤوس ساكنيها وقتل النساء والأطفال بحجة محاربة “الإرهاب”.

ويؤكد خبراء أن بوتين يحاول ترسيخ نفوذه السياسي بالقومية الدينية، وتركيزه على الكنيسة الأرثوذكسية، بصفتها إحدى الركائز الأساسية بالدولة القومية الروسية بعد عقود من القمع السوفيتي.

وردا على القرار التركي عام 2020 بتحويل كنيسة “آيا صوفيا” بولاية إسطنبول من متحف بقي لمدة 86 عاما إلى مسجد، اقترح العبد الله بإنشاء كنيسة كنسخة مصغرة، في مدينة السقيلبية باسم آيا صوفيا. وسرعان ما لاقت الفكرة ترحيب البطريركية الروسية ودعم من مجلس الدوما الروسي.

وقال العبد الله في 30 يوليو 2020 إن الفكرة “ليست بناء كنيسة، وإنما بناء نموزج لـ”آيا صوفيا” بأبعاد 5م × 5م ليس غير، وستقام على أرضي الخاصة، وبمالي الخاص”.

وبالفعل في 5 سبتمبر أيلول 2020 توجه وفد من قاعدة “حميميم” الجوية لوضع حجر الأساس للكنيسة المصغرة.

 

دعم وتأهيل

وعمل الضباط الروس الذين بدأوا يكثفون زياراتهم إلى السقيلبية ومحردة، على إغراء قادة المليشيات هناك التابعة لهم وكسب ودهم أكثر.

ففي 9 فبراير 2021، منحت روسيا قائد مليشيا الدفاع الوطني في السقيلبية، نابل العبد الله، وسام “الإخلاص لروسيا” من الدرجة الثانية، بالإضافة إلى منحها ذات الوسام لقائد ميليشيا “الدفاع الوطني” في محردة، سيمون الوكيل.

وليست هي المرة الأولى التي يقوم ضباط قاعدة حميميم، بتكريم العبد الله، إذ جرى منحه في فبراير 2018 وسام “الشجاعة والإقدام في محاربة الإرهاب في سوريا”.

كما ربطت روسيا تلك المليشيات المسيحية بالقوات الروسية، لا سيما بعدما عمد رئيس مركز المصالحة الروسي في سوريا، سيرجي سمالينسكي في 17 ديسمبر 2020، بوضع داخل كنيسة في السقيلبية بحضور نابل العبد الله، قائمة بأسماء 20 جنديا روسيا قتلوا في سوريا خلال الفترة من 24 نوفمبر 2015 إلى 18 أغسطس 2020.

كما وضع نائب قائد القوات الروسية في قاعدة “حميميم”، ألكسندر جرينكيفيتش، في 16 يناير 2021، لائحة بأسماء 26 من القتلى الروس في سوريا، داخل كنيسة “القيامة” بمدينة محردة بحضور سيمون الوكيل، والأب حدو شبلي، ورئيس مجلس البلدة جوني صدير.

ولم تستعمل روسيا مدينتي السقيلبية ومحردة كخزان بشري لتجنيد المقاتلين لمساندة قوات الأسد في معاركها فحسب، بل استخدمت المدينتين كمرابض للمدفعية.

إذ كان منهما تنفذ رمايات صاروخية ومدفعية على المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية، في تكتيك لعبت عليه موسكو، لكونها تدرك حساسية استهداف المكون المسيحي، فيما لو ردت المعارضة بقصف مواقع خروج القذائف.

وكثير ما كانت روسيا تدعو نابل العبد الله إلى حضور مؤتمرات دينية، ومنها “المؤتمر المسيحي العالمي الخامس” عام 2019، و”المؤتمر الدولي السابع لمنظمة اتحاد العالم المسيحي” عام 2021.

ولهذا كان العبد الله هو والوكيل، يجتهدان بتجنيد أبناء مدينتي السقيلبية ومحردة والمسيحيين بشكل عام من مناطق قريبة ضمن مليشيا “الدفاع الوطني”.

وقدمت روسيا مغريات كبيرة لهم، لا سيما عبر تزويدهم بأسلحة ومعدات نوعية، كأجهزة الرصد الليلي، وأجهزة الكشف عن الألغام والمتفجرات، وهي تقيم للعناصر بين الفترة والأخرى دورات ميدانية عن خوض المعارك.

وتجري عمليات تدريب ومعسكرات بإشراف ضباط روس للعناصر، فضلا عن تجنيد الأطفال وتدريبهم ضمن عدة دورات عسكرية تحت اسم “دورة أشبال الدفاع الوطني”.

ورغم أن العبد الله ليس من خلفية عسكرية، إلا أنه استطاع كمسيحي أن يتحول إلى رجل دين بصنيعة روسية، ويجلب إلى موسكو ليتحدث باسم المسيحيين ويحضر الفعاليات الدينية والمؤتمرات.

تصرف العبد الله كأمير حرب وأنشأ مركزا لتدريب الأطفال تحت مسمى “الدفاع المقدس” عن مسيحيي السقيلبية، فيما لا تقتصر عمليات التجنيد على الشباب بل تشمل أيضا النساء.

ونتيجة علاقات العبد الله القوية مع الروس، فإنه يجرى دعوته مع عائلته لحضور فعاليات تجريها روسيا داخل قاعدة حميميم منها ترفيهية للجنود، وأخرى متعلقة بالأعياد الوطنية، كما أصبح على صلة بمسؤولي نظام الأسد بحكم قربه من موسكو التي تتحكم بقرارات الأسد السياسية والاقتصادية والعسكرية.

ولا يقتصر الدعم الروسي لمدينتي محردة والسقيلبية، على الجانب العسكري، بل يشمل مساعدات مادية وعينية تقدم للمجالس المحلية والجمعيات الخيرية في المدينتين لمساعدة الأهالي، فضلا عن تنمية الخدمات البلدية العامة.

وفي هذا الإطار، أكد الباحث الاجتماعي السوري حسام عبد الغني، أن “ما يؤكد أن بوتين امتطى الدين من أجل التوسع والهيمنة في سوريا وإيجاد موطأ قدم لبلاده في البحر المتوسط، هو قصف طائراته للكنائس”.

وأضاف أن “ما يثبت كذب مزاعم روسيا حماية المسيحيين هو قصف طيرانها في 10 أغسطس 2016 لكنيسة السيدة العذراء وهي الوحيدة في مدينة إدلب وتدميرها، وكذلك كنيسة جسر الشغور للمسيحيين الأرثوذكس بمدينة جسر الشغور بريف إدلب”.

 وذهب عبد الغني إلى القول: إن “تركيز روسيا على تأهيل وبناء الكنائس ودعم المكون المسيحي في ريف حماة، هو أحد الأساليب الناعمة التي جعل أهالي السقيلبية ومحردة يدينون لها بالولاء ويتحول شبابها إلى مليشيات تأتمر بأمر الروس”.

ولفت إلى أن “حالة العسكرة التي عملت عليها روسيا لتجنيد للشباب المسيحيين تشبه باقي المناطق السورية، والقائمة على استغلال العامل الاقتصادي عبر صرف الرواتب للمنتسبين وتقديم المساعدات الغذائية والحصول على بطاقات أمنية من قاعدة حميميم”.

ومع أن جزءا كبيرا من القيادة المسيحية في سوريا اختار بالفعل الوقوف إلى جانب نظام الأسد، إلا أن أعدادا لا تحصى من المسيحيين السوريين لا تدعمه، بينما كان آخرون أعضاء نشطين في المعارضة.

وعندما اندلعت الحرب في عام 2011، كان عدد المسيحيين يُقدر بـ 2.2 مليون نسمة، لكنه انخفض إلى 677 ألفا في 2021، وفق مؤشر اضطهاد المسيحيين في بلدان العالم الذي نشرته منظمة “أوبن دورز” البروتستانتية الدولية.

وتشير تقارير دولية إلى أن كثيرا من المسيحيين في سوريا يعتبرون أن نظام الأسد “أخذهم كرهائن”.