في مشهد بات مألوفاً لكنه أكثر فظاعة هذه المرة، تجددت الهجمات الإسرائيلية على بلدة بيتا جنوب نابلس، مع تصاعد وتيرة العنف المنظم من قبل المستوطنين المسلحين تحت حماية جيش الاحتلال.

مساء الجمعة، اندلعت مواجهات عنيفة عقب اقتحام عشرات المستوطنين لمنطقة قماص في البلدة، في اعتداء سافر على السكان المدنيين الفلسطينيين الذين تصدوا لهم بصدورهم العارية، بينما هرعت قوات الاحتلال لحماية المعتدين، مطلقة الرصاص الحي وقنابل الغاز دون أن تسجل إصابات مؤكدة حتى اللحظة.

لكن ما هو أبعد من التفاصيل الميدانية هو ذلك الصمت الرسمي المريب من “القيادة الفلسطينية”، وعلى رأسها محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، الذي لم ينطق بكلمة تجاه ما يتعرض له الفلسطينيون من مجازر متواصلة في غزة وعمليات تطهير عرقي ممنهج في الضفة. 

وكأن ما يجري في بيتا وطولكرم وبيت لحم لا يعنيه، في وقت يتجه فيه الاحتلال نحو الضم الكامل للضفة تحت غطاء دولي وأمريكي متواطئ.

هجوم منظم.. وتواطؤ جيش الاحتلال

بحسب وكالة “الأناضول”، بدأ الهجوم مساء الجمعة عندما اقتحمت مجموعات من المستوطنين المسلحين أطراف بلدة بيتا، وتحديداً منطقة قُماص، في محاولة جديدة لفرض الأمر الواقع عبر ترهيب السكان الفلسطينيين. ومع محاولة الأهالي التصدي للاعتداء، تدخلت قوات الاحتلال الإسرائيلية على الفور لحماية المستوطنين، مطلقة الرصاص الحي والغاز المسيل للدموع بكثافة.

هذه ليست المرة الأولى التي تشهد فيها بيتا هذه الهجمات، فالبلدة أصبحت منذ سنوات هدفاً دائما للمستوطنين بسبب موقعها الجغرافي الاستراتيجي ومقاومة أهلها المستمرة لمحاولات إنشاء بؤر استيطانية على أراضيهم، وعلى رأسها “جبل صَبيح” الذي أصبح رمزاً للصمود الشعبي في وجه الاحتلال.

اللافت أن هذا الهجوم يأتي في ظل تصعيد ميداني ممنهج يشمل عدة مناطق بالضفة الغربية، ففي اليوم ذاته استشهد فلسطيني برصاص الاحتلال قرب مخيم نور شمس، وأصيب آخر شرقي بيت لحم، بينما شنت قوات الاحتلال حملة اعتقالات واسعة في مدن وبلدات متفرقة.

خطة الضم العلنية: من الأرض إلى القانون

في توقيت لافت، وجه وزراء وأعضاء كنيست من حزب الليكود الحاكم رسالة مباشرة إلى بنيامين نتنياهو تطالبه بـ”ضم الضفة الغربية فوراً”، مشيرين إلى أن “الظروف الدولية مواتية” لهذه الخطوة. واعتبر هؤلاء أن “الفرصة التاريخية” قد حانت لتطبيق السيادة الإسرائيلية على كامل ما يُسمى “يهودا والسامرة”، أي الضفة الغربية.

يأتي هذا في ظل دعم أمريكي غير مسبوق لحكومة الاحتلال، وصمت أوروبي مريب، وانشغال عربي بالصراعات الداخلية أو الانبطاح الكامل أمام المشروع الصهيوني، كما هو الحال مع بعض دول التطبيع وعلى رأسها الإمارات والسعودية.

أما السلطة الفلسطينية، التي يُفترض أن تكون “المدافع الأول” عن الأرض والهوية، فتبدو كأنها مجرد أداة وظيفية تعمل في ظل الاحتلال، إذ لم يصدر عنها أي موقف حقيقي أو خطوات عملية تجاه هذه الدعوات الإسرائيلية العلنية للضم. لم نسمع سوى بيانات تقليدية إن صدرت، في حين تواصل الأجهزة الأمنية التابعة لها التنسيق الأمني مع الاحتلال الذي يقتل شعبها.

عباس: رئيس بلا شعب أم وكيل أمني؟

محمود عباس الذي يقترب من عامه العشرين في رئاسة سلطة بلا سيادة، لم يخرج عن صمته حتى بعد أن قُتل في عهده ما يزيد عن 989 فلسطينياً في الضفة منذ بداية الحرب على غزة في أكتوبر 2023، بينهم أطفال ونساء وشباب مقاومون. لم يعلن وقف التنسيق الأمني، ولم يتخذ قراراً استراتيجياً بمقاطعة الاحتلال، بل استمر في اللقاءات البروتوكولية والاجتماعات الدولية التي لا تعني شيئاً على الأرض.

ومع تصاعد العنف في الضفة، يتساءل كثيرون: ما هو الدور الذي تلعبه السلطة الفلسطينية اليوم؟ هل لا تزال تدّعي تمثيل الفلسطينيين أم أنها تحولت إلى كيان وظيفي يحرس أمن الاحتلال ويمنع اندلاع انتفاضة شاملة؟!

فالهجمات التي تشهدها بيتا وسواها من البلدات والمدن الفلسطينية، لا يمكن فصلها عن الإطار الأشمل لما يسمى “إعادة هندسة” الضفة الغربية، عبر طرد سكانها تدريجياً، وتهجيرهم تحت ضغط المستوطنين والجيش، ووسط صمت “رسمي فلسطيني” يمثل خيانة علنية لدماء الشهداء وحق العودة.

بين بيتا وغزة: وجهان للمجزرة

ما يحدث في بيتا ليس إلا امتداداً للمحرقة المستمرة في غزة، حيث قُتل ما يزيد على 193 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، وأُجبر أكثر من مليون ونصف على النزوح في ظل تجويع ممنهج وحصار خانق. الاحتلال لا يفرّق بين غزة والضفة، وهدفه واضح: كسر الإرادة الفلسطينية، وترسيخ مشروع التطهير العرقي.

لكن الفرق الجوهري هو أن غزة تُدافع عن نفسها وتُقاتل، بينما تُترك الضفة لتنهشها ذئاب الاستيطان تحت غطاء “السلطة الوطنية”.

ختامًا: بيتا ليست وحدها.. والمقاومة قدر الفلسطينيين

لن تكون بيتا آخر البلدات المستهدفة، فمشروع الاستيطان لا يتوقف إلا بالمقاومة. والشعب الفلسطيني، رغم الخذلان الداخلي والخارجي، أثبت في كل مرة أنه قادر على الصمود والمواجهة. لكن العبء اليوم أكبر، والرهان على القيادات التي لا ترى ولا تسمع لم يعد ممكناً.

آن الأوان لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني من الداخل، وإنهاء مرحلة “السلطة الأمنية” التي تحولت إلى عبء على النضال الوطني. فالهجوم على بيتا ليس فقط هجومًا من المستوطنين، بل من كل من يصمت أو يتواطأ أو يبرر.

اقرأ أيضًا : ماكرون يتوعّد وطهران تتحدّى.. هل تنفجر أزمة الرهائن بين فرنسا وإيران؟