لأكثر من سبعة عقود، نجح الاحتلال الإسرائيلي في الترويج لنفسه كضحية دائمة، مستخدمًا الدعاية المضللة لتزييف التاريخ وتبرير سياساته الوحشية. لكن مع تصاعد المجازر التي ترتكبها إسرائيل في غزة والضفة الغربية، ومع الكم الهائل من الأدلة التي توثق فظائعها، بدأت هذه الرواية تنهار عالميًا. لم يعد بالإمكان خداع الناس تحت شعار “الدفاع عن النفس”، فالمجازر المروعة، واستهداف الأطفال، والسياسات الإبادة الجماعية، أصبحت مشاهد يومية تُعرض أمام العالم، بلا رتوش أو تزوير.
في هذا السياق، جاء كتاب “كونك يهوديًا بعد تدمير غزة: مراجعة للذات” للكاتب والمفكر الأمريكي بيتر بينارت، ليعكس تحولًا جوهريًا في وعي العديد من اليهود حول العالم. بينارت، الذي كان من أبرز المدافعين عن إسرائيل، أصبح اليوم من أشد منتقديها، بعد أن أدرك أن الرواية الصهيونية التي تشرّبها طوال حياته لم تكن سوى كذبة كبرى تهدف إلى تبرير الاحتلال والجرائم التي تُرتكب يوميًا بحق الفلسطينيين.
السقوط المدوي للدعاية الإسرائيلية
مع كل يوم يمر، تتكشّف المزيد من الحقائق الصادمة حول طبيعة الاحتلال الإسرائيلي، وتُسقط الآلة الإعلامية الصهيونية أقنعتها واحدًا تلو الآخر. كتاب بيتر بينارت هو شهادة حية على ذلك، فهو لم يعتمد على الشعارات أو الأيديولوجيا، بل على مراجعة نقدية للواقع والحقائق التاريخية التي تم التلاعب بها لعقود.
في كتابه، يعترف بينارت بأن الدعاية الصهيونية نجحت طويلًا في تصوير الصراع على أنه مواجهة بين “دولة صغيرة مهددة” و”أعداء متوحشين”، لكن المشاهد القادمة من غزة وضعت حدًا لهذا الوهم. عندما ترى الطائرات تدمر المستشفيات والمدارس، وعندما تشاهد الأطفال يقتلون أمام أعين العالم، يصبح من المستحيل تبرير هذه الفظائع تحت أي ذريعة.
الأهم من ذلك، أن بينارت لم يكن وحده في هذا التحول. هناك موجة متزايدة من اليهود حول العالم، خصوصًا في الغرب، بدأوا يتساءلون: كيف تم خداعهم طوال هذه السنوات؟ كيف تحوّلت إسرائيل، التي كانوا يعتقدون أنها “واحة للديمقراطية”، إلى نظام فصل عنصري يمارس القتل بلا رحمة؟
عندما يصبح الاحتلال عبئًا ثقيلًا على داعميه
لسنوات طويلة، كان الصوت اليهودي الداعم لإسرائيل يحظى بغطاء سياسي وإعلامي غير مسبوق. لكن بعد المذبحة التي شهدها قطاع غزة، ومع صمت الحكومات الغربية أمام المجازر الجماعية، بدأ الرأي العام العالمي في الانقلاب على هذه الرواية. لم يعد هناك من يستطيع تبرير قتل الأطفال وهدم البيوت فوق رؤوس أصحابها. أصبحت صور الدمار والجثث المتناثرة أقوى من أي دعاية، والمظاهرات التي اجتاحت مدن العالم تؤكد أن إسرائيل لم تعد قادرة على خداع أحد.
في ظل هذا التغير الجذري، بدأ العديد من اليهود يشعرون بأنهم وقعوا في فخ الرواية الصهيونية، وأن دعمهم لإسرائيل لم يكن دعمًا “للدولة اليهودية”، بل كان دعمًا لمشروع استعماري استيطاني قائم على الإبادة والاضطهاد.
بيتر بينارت كان من بين هؤلاء، لكنه لم يكتفِ بالتراجع، بل قرر أن يكتب عن الحقيقة، أن يواجه مجتمعه، وأن يُعلن موقفه بشكل صريح: “إسرائيل ليست ما كنا نظن، وما يحدث في غزة والضفة هو جريمة لا يمكن تبريرها”.
“معاداة السامية” لم تعد درعًا يحمي الجلاد
لأعوام طويلة، استخدمت إسرائيل تهمة “معاداة السامية” كسلاح لقمع أي انتقاد لجرائمها، لكن مع تزايد الوعي العالمي، لم يعد هذا السلاح فعالًا كما كان. أصبح الناس أكثر إدراكًا أن هناك فرقًا شاسعًا بين انتقاد إسرائيل كمحتل، وبين التحريض ضد اليهود كديانة أو عرق. لم تعد المجازر تمر دون إدانة، ولم يعد الرأي العام يتقبل الأكاذيب التي تحاول تصوير القاتل كضحية.
كتاب بيتر بينارت يُجسد هذه الحقيقة الجديدة، فهو شهادة من داخل الدائرة اليهودية نفسها، تؤكد أن الانفصال عن إسرائيل لم يعد مجرد خيار سياسي، بل ضرورة أخلاقية لكل من يرفض العنف والاحتلال.
اليوم، ومع انكشاف الوجه الحقيقي لإسرائيل أمام العالم، لم يعد هناك مجال للاختباء وراء الدعاية. الجريمة واضحة، والقاتل معروف، والعالم لم يعد يصدق الأكاذيب.
اضف تعليقا