بعد ثلاثة أشهر من القصف المدمر، لم يتم إعادة بناء سوى القليل من الأبراج الشاهقة التي تعرضت للقصف والتي كانت عبارة عن شقق سكنية، ومكاتب تجارية، وخدمية، وإعلامية.

قبل أربع سنوات، كان جهاد جودة مسروراً لتمكنه من شراء شقة لعائلته في برج الجلاء، وهو مبنى مكون من 14 طابقاً في وسط مدينة غزة.

كان هذا البرج الراقي موطناً لحوالي 700 شخص بالإضافة إلى المحامين وشركات برامج الكمبيوتر، والمكاتب الإعلامية التابعة لوكالة أسوشيتد برس الأمريكية وقناة الجزيرة القطرية.

أمضى الموظف الحكومي البالغ من العمر 54 عاماً، وهو يرتدي نظارة طبية، السنوات الثلاثين الأولى من حياته وهو يتنقل بين المنازل السكنية في مخيم قريب للاجئين، وبعد أن التقى بزوجته في عام 2001، انتقل الزوجان إلى غزة لتكوين أسرة. وأشار إلى أن الحصار الإسرائيلي والمصري للقطاع الذي أعقب زواجهما بسنوات قليلة جعل الحياة في المدينة صعبة، ومع ذلك، كان برج الجلاء يوفر مستوى معيشيًا لائقاً.

في وصفه للبرج، قال “جهاد”: “كان هنا سوق راقية، واسعة.. البرج كان به مولداً للكهرباء وعدد من الخدمات الأخرى. كان الجيران لطيفين للغاية، لم يساورني القلق لحظة أننا قد نصبح أهدافاً للقصف. كنا محاطين بمحامين وصحفيين ومدنيين”.

ومع ذلك، في 15 مايو/أيار، بعد تسعة أيام من الاستماع إلى سقوط القنابل على الحي خلال المواجهة الأخيرة بين إسرائيل وحماس، الجماعة الإسلامية التي تحكم سكان قطاع غزة البالغ عددهم مليوني نسمة، سمعت عائلة جودة ضجة خارج الباب الأمامي.

“أخبرنا جيراننا أنهم سيقومون بإخلاء البرج بعد مكالمة هاتفية من الإسرائيليين قالوا فيها إنهم سيقومون بقصفها”، وأضاف جهاد: “غادرنا بأسرع ما يمكن، فقط أخذنا جوازات السفر والوثائق الأخرى. انتظرنا في مكان قريب، كانت لدينا آمال أن القصف لن يحدث، اعتقدنا أن وكالة أسوشيتد برس قد يكون لها دور من أجلنا. ما زلت لا أصدق ذلك. ما زلت في حالة صدمة “.

بعد ثلاثة أشهر من انهيار برج الجلاء، تم إزالة معظم الأنقاض: لا يزال العمال يحفرون فيما تبقى من شرائط ملتوية من حديد التسليح، ومحاولة تقويتها لإعادة بيعها لمشاريع البناء الجديدة.

يتكرر المشهد في جميع أنحاء الجيب الساحلي، لم يتم إعادة بناء أي شيء دمر في مايو/أيار حتى الآن، باستثناء ملء بعض الحفر على الطرق الرئيسية كي لا تتأثر حركة المرور، والسبب في ذلك أن غالبية التمويل الخارجي لإعادة الإعمار لا يزال معلقًا في المحادثات.

بغض النظر عن أي انتصارات سياسية أو عسكرية، لا يزال الواقع مرير على أرض الواقع، تعكس الجروح التي سببها قصف المباني السكنية في مدينة غزة حجم الصدمة والألم الذي ما زال يعاني منه الكثيرون هنا.

حرب مايو/أيار الأخير هي ثالث جولة قتال واسعة النطاق بين إسرائيل وحماس خلال 14 عاما منذ انتزاع النشطاء السيطرة على القطاع من السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.

دفع هذا الانتصار إسرائيل ومصر المجاورة إلى فرض حصار عقابي على القطاع أدى إلى خلق ما يسميه السكان “أكبر سجن في العالم”، مع معدل بطالة أكثر من 50٪، ونظام رعاية صحية منهار، ومياه سامة وانقطاع مستمر للتيار الكهربائي.

جلبت كل حرب أحزاناً جديدة، على الرغم من اختلاف طبيعة القتال، لم يكن هناك غزو بري هذه المرة، اعتمدت إسرائيل بدلاً من ذلك على أثقل الأسلحة في ترسانتها، بما في ذلك GBU-28s من صنع الولايات المتحدة، لشن حملة جوية مكثفة. والفرق الأوضح بين هذه الحرب وتلك التي سبقتها، وفقًا لجماعة حقوق الإنسان المحلية الميزان، هو الاستهداف المتعمد للأبراج الشاهقة، التي كانت جميعها موطنًا لمدنيين ومكاتب خدمية.

مع محدودية المساحة وتزايد عدد السكان، هناك خيارات قليلة أمام سكان غزة بخلاف البناء، لكن بعد جمع العمل الميداني خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وجدت الميزان أنه هذه المرة، تم استهداف 232 وحدة سكنية في الأبراج الشاهقة مثل الجلاء خلال المواجهة التي استمرت 11 يومًا في مايو/أيار، مقارنة بـ 182 وحدة في صراع 2014، الذي استمر سبعة أسابيع.

في نهاية حرب 2014، كان مركز مدينة غزة، وليس المناطق الحدودية، مستهدفًا بشدة، وحتى الآن، لا يزال المعبر التجاري مع إسرائيل مغلقاً جزئياً، مما يؤدي إلى نقص دائم في الإمدادات الطبية مثل مواد التخدير، كما يتسبب ذلك في وقف العمليات الجراحية ويحد من قدرات العناية المركزة في القطاع.

هذه المرة كان هناك استهداف واضح للجهود الإنسانية، في تصريحه، قال سمير زقوت، مدير وحدة البحوث الميدانية في الميزان: “تم ضرب الشوارع السكنية لأنهم يقولون إن هناك أنفاقاً لحماس تحتها: في الواقع ما حدث أن أنابيب المياه هي ما تضررت، والطرق أغلقت، ما يجعل من الصعب إخلاء الجرحى”.

لم يضربوا بعض أهداف حماس الواضحة، مثل مكتب يحيى السنوار [زعيم حماس داخل غزة]، هذا بالطبع له دلالة واضحة، يريدون أن تصل لحماس رسالة: “انظروا، يمكننا تدمير كل شيء وإخبار الناس العاديين أنه لا أمل”.

في بيت حانون، وهي بلدة صغيرة بالقرب من الحدود الشمالية للقطاع، فقدت عائلة حامد “رائد” البالغ من العمر 34 عاماً، وهو واحد من ستة أبناء، في مايو/أيار.

كان نائماً في غرفة بالطابق الثاني من منزل العائلة الكبير عندما اخترقت قذيفة إسرائيلية السطح ودمرت الجزء الخلفي من المنزل وأطلقت النار التي التهمت الكثير مما تبقى.

قال زكريا حامد، 65 عاما، والد رائد: “لقد فقدنا منزلنا بالفعل في حرب 2014… أعدنا بناء ثلاثة منازل منفصلة بعد ذلك، كنا نعلم أننا جميعاً معرضون للموت، لذلك رأينا إن كان الموت بالقصف حتمياً، على الأقل لا نموت جميعاً، لهذا كانت المنازل الجديدة منفصلة “.

وأضاف حامد أن المساعدة في إعادة الإعمار ليست وشيكة الحدوث “رغم الطلبات المتكررة، لم يزر المسؤولون المنطقة لإجراء تقييم لاحتياجات السكان. حتى لو وصلت أموال المساعدات من الأمم المتحدة أو مصر أو قطر، فإن الحصار يعني أن سعر مواد البناء يمكن أن يرتفع بسرعة، وقد لا تتمكن الأسرة من تحمل تكاليف الإصلاحات”.

أما شريف، شقيق رائد، البالغ من العمر 38 عاماً، قال: “الخسائر الحقيقية هي النفسية، فقداننا أهالينا، وليس الدمار المادي، الأرواح البشرية هي التي تتحمل التكلفة”، قال ذلك وهو جالس مع بقية أفراد أسرته في الظل خارج منزلهم المدمر: “العيش بدون حرية وبدون كرامة يجعل من المستحيل أن يكون الإنسان سعيداً”.

واختتم حديثه قائلاً بحزن “هذا ما يعنيه أن تكون فلسطينياً. حلم رائد بأن يكون حراً، لكن ذلك كان مستحيلاً”.

 

للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا