في خطوة غير مسبوقة، تُجري الولايات المتحدة الأمريكية مشاورات مكثفة مع الحكومة اللبنانية لاختيار حاكم مصرف لبنان المركزي الجديد، في محاولة منها لـ”إصلاح النظام المالي اللبناني والحد من الفساد”، وفق ما نقلته وكالة “رويترز” عن خمسة مصادر مطلعة. 

هذا التدخل الأمريكي المباشر يُعد جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى إضعاف حزب الله، الذي تعتبره واشنطن لاعبًا مؤثرًا في لبنان، خاصة في ظل النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة.

يأتي هذا التدخل في وقت يعاني فيه لبنان من أزمة مالية خانقة، تُوّجت بانهيار اقتصادي حاد منذ أكثر من خمس سنوات، تسبّب في فقدان الليرة اللبنانية لأكثر من 90% من قيمتها، وانهيار الثقة في القطاع المصرفي. 

ومع استقالة الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة في يوليو 2023، بات المنصب شاغرًا، ويخضع حاليًا لإدارة مؤقتة. ومع تشكيل حكومة جديدة بقيادة رئيس مدعوم أمريكيًا، يزداد الضغط لملء المناصب القيادية، وعلى رأسها منصب حاكم المصرف المركزي.

وفقًا لثلاثة مصادر لبنانية ودبلوماسي غربي ومسؤول في إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، فإن واشنطن تقوم بعملية مراجعة دقيقة لعدد من المرشحين المحتملين، حيث التقى مسؤولون أمريكيون ببعضهم في واشنطن وفي السفارة الأمريكية في بيروت. 

هذه الاجتماعات، التي ناقشت ملفات حساسة مثل “تمويل الإرهاب” ودور حزب الله في الاقتصاد اللبناني، تبرز مدى تحكم الولايات المتحدة في القرارات المصرفية اللبنانية، في تجاهل تام لمبدأ السيادة الوطنية.

 

التأثير الأمريكي وتراجع القرار اللبناني

أفاد مسؤول أمريكي بأن هذه اللقاءات تأتي في إطار “الدبلوماسية الاعتيادية”، لكن الواقع يشير إلى أنها جزء من استراتيجية واشنطن لفرض شروطها على النظام المالي اللبناني.

إذ صرّح أحد المسؤولين الأمريكيين بأن المبادئ التوجيهية لاختيار الحاكم الجديد يجب أن تشمل “عدم الانتماء إلى حزب الله، وعدم التورط في الفساد”، مضيفًا أن المرشح المثالي يجب أن يكون قادرًا على تنفيذ الإصلاحات التي تطالب بها الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي.

هذه التدخلات تكشف مدى ضعف القرار اللبناني، حيث باتت المناصب السيادية تُدار عبر حسابات خارجية وليس وفق رؤية وطنية مستقلة. 

ولم يكن التدخل الأمريكي في لبنان محصورًا فقط في الجوانب الاقتصادية، بل تعداه إلى مستويات أمنية وسياسية، وهو ما ظهر جليًا في الحوادث الأخيرة التي أكدت غياب الدولة اللبنانية ككيان مستقل قادر على حماية قراراته ومواطنيه.

اختطاف عبد الرحمن القرضاوي: نموذج صارخ لغياب السيادة اللبنانية

في مثال صارخ على هشاشة السيادة اللبنانية، أقدمت الإمارات العربية المتحدة على تنفيذ عملية أمنية داخل الأراضي اللبنانية لاختطاف الشاعر المصري عبد الرحمن القرضاوي، في مشهد يجسّد مدى اختراق القوى الإقليمية للقرار اللبناني، وعجز الدولة عن فرض سلطتها على أراضيها.

عبد الرحمن القرضاوي، نجل الشيخ يوسف القرضاوي، كان يقيم في لبنان بعيدًا عن الأضواء، لكن فجأة، في عام 2023، اختفى في ظروف غامضة وسط صمت رسمي لبناني. لاحقًا، تبيّن أن عناصر أمنية إماراتية، وبالتنسيق مع جهات محلية داخل لبنان، نفّذت عملية اختطافه وترحيله سرًا إلى أبو ظبي، دون أي مسوغ قانوني أو مذكرة توقيف رسمية.

هذه العملية أعادت للأذهان عمليات الاختطاف التي تنفذها الدول القوية على أراضي الدول الضعيفة أو الفاشلة، حيث غابت الدولة اللبنانية تمامًا عن المشهد، ولم تصدر أي توضيحات رسمية حول كيفية خروج القرضاوي من البلاد أو الجهة المسؤولة عن تسليمه. 

في المقابل، صمتت الحكومة اللبنانية، خشية الدخول في مواجهة مع الإمارات، التي تُعتبر لاعبًا إقليميًا قويًا يمتلك نفوذًا ماليًا ودبلوماسيًا داخل لبنان.

عملية اختطاف القرضاوي لم تكن سابقة وحيدة، بل سبقتها حالات عديدة عكست مدى الهشاشة الأمنية اللبنانية، مثل اختطاف الصحافي المعارض نزار زكا وتسليمه لإيران في 2015، وهو ما يؤكد أن لبنان لم يعد يملك قراره السيادي، بل أصبح مسرحًا للصراعات الإقليمية والدولية، حيث تُنفذ فيه عمليات أمنية من قبل أجهزة مخابرات خارجية دون أي اعتبار لسيادة الدولة.

لبنان بين النفوذ الأمريكي والإقليمي: دولة تحت الوصاية؟

يبدو المشهد اللبناني اليوم أشبه بدولة فاقدة للقرار المستقل، حيث تخضع مؤسساتها الحيوية، بما فيها مصرف لبنان المركزي، لتأثير مباشر من واشنطن، بينما تفرض دول أخرى مثل الإمارات وإيران سيطرتها على الملفات الأمنية والسياسية. 

ومع استمرار الأزمة الاقتصادية وانهيار المؤسسات، يواجه لبنان خطر التحوّل إلى ساحة صراع مفتوح بين القوى الإقليمية والدولية، حيث تُصنع قراراته المصيرية في العواصم الأجنبية وليس في بيروت.

إن التدخل الأمريكي في اختيار حاكم مصرف لبنان، والعمليات الأمنية التي تنفذها دول أخرى داخل لبنان، يُثبتان أن هذا البلد لم يعد يمتلك قراره المستقل، بل أصبح رهينة لمصالح القوى الكبرى. 

فهل يستطيع اللبنانيون استعادة سيادتهم، أم أن لبنان قد دخل مرحلة “الإدارة الخارجية” حيث تتحكم الدول الكبرى والإقليمية في مستقبله؟

اقرأ أيضًا : بعد عار الإفطار على دماء الفلسطينيين.. المستوطنون الإسرائيليون الأكثر دموية وإجراما في ضيافة النظام الإماراتي