لكن هناك عاطفة أهم من الضجر فيها يتجلى العدم أبرز ما يتجلى، وهي القلق. والقلق ليس هو الخوف، لأن الخوف هو دائماً خوف من شيء معين، أما القلق فيتعلق بالأشياء كلها في مجموعها.وليس القلق هو الذي يوجد العدم، إن صح هذا التعبير، بل هو فقط الذي ينبه الإنسان إلى وجوده.ولهذا لابد للإنسان أن يعيش في القلق ليتنبه إلى حقيقة الوجود.ذلك أن الإنسان بطبعه يميل إلى الفرار من وجه العدم الماثل في صميم الوجود وذلك بالسقوط بين الناس وفي الحياة اليومية الزائفة، .! ولكي يعود إلى ذاته لابد من قلق كبير يوقظه من سباته.والقلق على نوعين: قلق من شيء، وقلق على شيْ والموجود في العالم يقلق على إمكانياته التي لن يستطيع مهما فعل أن يحقق منها غير جزء ضئيل جداً: أولاً لأن التحقيق يقتضي الإختيار لوجوه والنبذ لسائر الوجوه. وثانياً: لأن ثمة حقيقة كبرى تقف دون استمرار التحقيق ألا وهي: الموت.!
عبدالرحمن بدوي
عندما ندركُ بعضاً مما يحيطُ بنا، على المستوى الشخصي أو العام، فقد تنتابنا موجةٌ من التشاؤم، فنغرقُ فيما يشبه اليأس، لكن عليه أن لا يستلزم قنوطاً قاتلاً، فلا مانع من أن نمنح لأنفسنا فسحةً من ضجرٍ مؤقت.
أنت لا تستطيعُ أن تصنع من السيء حسناً بمجرد خلع الأوصاف الحميدة والجيدة عليه، فالكلماتُ لا تُواري سوءةَ الواقع، ولكل واقعٍ عوراتٌ وسوءات، وفي استطاعة العقول الفطنة أن تنبش ما تحت الكلمات لترى الحقيقة المخبأة، إذ ربما تتحولُ اللغة إلى ما يشبه الليالي الخدّاعة والكاتمة لفظائع اقترفها صيفٌ ما، بأرضٍ ما، في أعقاب ربيعٍ قتيل..
فقد تمرُّ ليلاً بتركة الربيع المبعثرة فلا تراها، كالجثة الممزقة التي جمعها كفنٌ في أطوائه المظلمة الخرساء، فكأنه بضمِهِ لتلك الأشلاء الممزعة كمن يقارفُ خطيئة التخفيف من هول الجريمة، ليبدوَ القتيل على نعشه كأي ميتٍ مرحوم، لا يختلفُ عن أي مرحوم آخر. وهذا ما دعاني لأظنَّ بالليل ظنَّ السَوْء فأراه أحد اللصوص أحياناً، تماماً كاللغة إذا أسيءَ استعمالها، فتنقلبُ من كاشفٍ ومعبّرٍ عن المعنى أو الفكرة إلى طامسٍ مُعَمٍّ عنها، على حد قوله بعضهم: “إنما يتكلمُ الإنسان ليخفي ما يدور في ذهنه وما تختلجُ به خواطره”، بل بلغ الأمر بأحدهم أن قال: “إن الكلمات هي مجردُ أشياء نلجؤ إليها لتمويه أفكارنا الحقيقية”.
ولذا كان الأقربُ إلى سديد التعقلُ هو أن نسمي الأشياء بمسمّياتها الحقيقية، إذ مجردُ إدراكنا للأشياء لا يغير منها شيئاً، لكن ما يترتبُ عن هذا الإدراك والفهم من سلوك وفعل هو المغيّر، ولذا فأظن حكمة الكلمة في أنها تنقلُ بصائر المبصرين منا للواقع، إلى من هم ليسوا كذلك، أي بتفتّيقُ الوعي وصناعته، ثم صياغته، وبعد ذلك في قدرتها على استثارة ردّات الفعل والمبادرات المناسبة، وحينها فلنا أن ننظر إلى متهمي الكلمة نظرةً ناقدة متشككة، لأن الكلمة الطيبة تستطيع أن تكشف الزيف الذي تصنعه الكلمة الشريرة، ولذا فلا ينبغي لنا أن نسيء الظن بالكلمة بجريرة توظيفها الخاطئ.
ومن كل ذلك سيتضح أن التشاؤم قد يكونُ كالنتيجة لإدراك مدى بؤس واقعٍ ما. أما التفاؤل فهو ما يدفعنا للتحريض والإستثارة لتجاوزه، كما في المقولة الحكيمة لكرامشي: “يجب أن نعتمدعلى تشاؤم العقلانية، ولا ننسى تفاؤل الإرادة”..
اضف تعليقا