في مشهد يعيد إلى الأذهان انتفاضة فبراير 2011، احتشد الآلاف من الليبيين في ميدان الشهداء وسط العاصمة طرابلس، يوم الجمعة، للمطالبة بإسقاط كافة الأجسام السياسية التي يرون أنها تعمّق الانقسام وتنهب مقدرات البلاد.
المتظاهرون، الذين خرجوا تحت شعار “جمعة الخلاص”، شددوا على ضرورة إنهاء ما وصفوه بـ”حكم الميليشيات”، وطالبوا بإجراء انتخابات نزيهة تقود البلاد نحو الاستقرار.
لكن خلف هذه المطالب، يبرز أيضاً عامل خارجي متورط في إشعال فتيل الأزمة: دولة الإمارات، التي وُجهت إليها أصابع الاتهام بدعم الميليشيات، وشراء الولاءات عبر المال والسلاح والمرتزقة.
الشارع ينتفض مجددًا: لا شرعية للأجسام المنقسمة
تحرك المتظاهرون من مدن الغرب الليبي نحو طرابلس، مرددين هتافات تُدين حكومة عبد الحميد الدبيبة، وحكومة أسامة حماد في الشرق، وكذلك مجلسي النواب والدولة، واعتبروهم جميعاً عائقاً أمام وحدة البلاد وبناء مؤسساتها.
وأعلن المحتجون في بيان موحد أنهم يمنحون المجلس الرئاسي مهلة 24 ساعة لاتخاذ قرار ينهي حالة التشظي السياسي عبر توليه ملف الدستور وتنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية.
الناشطون اعتبروا الحراك امتدادًا طبيعيًا لثورة فبراير، وأنه لا يستهدف تيارًا بعينه، بل كل “سلطات الأمر الواقع” التي تحكم بقوة السلاح. وقال الدبلوماسي الليبي سالم جموم في تصريح إن هذه التظاهرات تمثل “عودة الصوت الشعبي المقموع”، وتهدف إلى إنهاء “شرعية الزيف التي تتغذى على الدعم الأجنبي والانقسام الداخلي”.
الإمارات.. الطرف غير الظاهر الذي يُشعل النيران
وفي خلفية المشهد، تتكرر اتهامات حقيقية وصريحة لدولة الإمارات بلعب دور خبيث في تعميق الأزمة الليبية، عبر دعم ميليشيات شرق البلاد بالمال والسلاح، ونقل مرتزقة من جنسيات أفريقية وآسيوية للقتال إلى جانب حفتر، وإطالة أمد الحرب الأهلية، في إطار سعي أبوظبي للسيطرة على مفاصل الدولة الليبية، وخصوصًا ثرواتها النفطية.
ويؤكد مراقبون أن الإمارات أنشأت “جيوبًا أمنية” داخل المؤسسات الليبية، عبر دعم “جهاز دعم الاستقرار” الذي تورط قادته في انتهاكات جسيمة، وميليشيات أخرى مرتبطة بشركات أمنية إماراتية خاصة مثل “بلاك شيلد”.
كما تُتهم بتمويل غرف عمليات إلكترونية لبث الفتنة بين مكونات الشعب الليبي، وتشويه أي حراك شعبي يسعى للتغيير الديمقراطي.
مواقف رسمية ودولية.. بين التضامن والتخوف
وفي خطوة غير معتادة، أعرب عضوا المجلس الرئاسي عبدالله اللافي وموسى الكوني عن تأييدهما للمظاهرات، واعتبراها “حقًا مشروعًا ودستوريًا”، بينما دعا رئيس المجلس محمد المنفي إلى “التهدئة والحوار”، محذرًا من العودة إلى لغة السلاح.
دوليًا، جاءت التصريحات على قدر كبير من الحذر، إذ قالت ممثلة الأمم المتحدة هانا تيتيه إن ليبيا “ليست جاهزة لإجراء انتخابات الآن”، لكنها تحدثت عن “عملية توافقية قيد التبلور”، طرحت من خلالها البعثة أربعة سيناريوهات للانتقال السياسي، تتراوح بين إجراء انتخابات مباشرة أو العودة إلى صياغة الدستور أولًا.
أما سفير الاتحاد الأوروبي، فقد شدد خلال زيارته لطرابلس على دعم بلاده لـ”الحل السلمي تحت مظلة الدولة”، وأعرب عن قلقه من “تصاعد التوتر المسلح”، مشددًا على رفض استخدام العنف ضد المتظاهرين.
اشتباكات متكررة وتفكك داخلي في حكومة الدبيبة
لكن، وبالتوازي مع تصاعد صوت الشارع، لا تزال طرابلس غارقة في اشتباكات الميليشيات المتصارعة على النفوذ، والتي أسفرت عن مقتل متظاهر وعنصر أمن الجمعة الماضية قرب مقر الحكومة.
وسبق ذلك إعلان ستة وزراء ونواب وزراء من حكومة الدبيبة استقالاتهم بعد اتهامهم له بالانحياز لفصيل بعينه وعدم حماية المدنيين.
التصعيد الأخير تفجر بعد اغتيال قائد جهاز دعم الاستقرار “عبد الغني الككلي” خلال اجتماع أمني، ما أدى إلى اشتباكات مسلحة دامت أيامًا، كشفت هشاشة الوضع الأمني وغياب السيطرة الحقيقية للدولة على السلاح.
ختام: ليبيا أمام مفترق طرق.. فهل يُسمع صوت الميدان؟
التظاهرات الأخيرة في طرابلس ليست مجرد احتجاج على حكومة أو مطلب انتخابي، بل تعبير عن عمق الأزمة الليبية الممتدة منذ أكثر من عقد.
هي لحظة فارقة بين استمرار دوامة الانقسام، والتدخلات الخارجية، وعلى رأسها الإمارات، أو بدء انتقال حقيقي نحو بناء دولة مؤسسات يُحترم فيها صوت الشعب.
أمام هذه اللحظة، تبدو خيارات المجلس الرئاسي محدودة، بين الاستجابة للمطلب الشعبي أو التحول إلى طرفٍ في المعركة.
وفي كل الأحوال، فإن الميدان بات يُعلن صراحة أن زمن الصمت انتهى، وأن الشرعية لا تُمنح عبر المحاصصة أو دعم الخارج، بل تُنتزع من صناديق الاقتراع التي حُجبت طويلاً.
اقرأ أيضًا : “فلسطين” ممنوعة.. مايكروسوفت تدخل مرحلة الرقابة الناعمة باسم الحياد الزائف
اضف تعليقا