تحقيق جديد نشرته منصة فرانس 24 يكشف بالأدلة والوثائق عن واحدة من أخطر صفقات التسليح في المنطقة، تورّط فيها النظام الإماراتي عبر شركة تابعة له تُعرف بتورطها المتكرر في انتهاك قرارات الحظر الأممية.

التحقيق، وهو الجزء الثاني من سلسلة تتبع مسار الأسلحة الأوروبية في الحرب السودانية، يوضح كيف وصلت أكثر من 100 ألف قذيفة هاون بلغارية الصنع عن طريق الإمارات إلى ميليشيا الدعم السريع في السودان، رغم الحظر الأوروبي المفروض على تصدير الأسلحة إلى هذا البلد، ودون علم أو موافقة السلطات البلغارية المعنية، حسب ما تزعم. محور هذه الشبكة المعقدة كان شركة إماراتية تدعى International Golden Group (IGG)، تابعة للنظام الإماراتي، والتي لعبت دور الوسيط والمستورد الرسمي للسلاح.

البداية كانت مع ظهور فيديو مصور في 21 نوفمبر 2024، حيث ظهر مقاتلين من الدعم السريع في السودان يعرضون فيه قذائف هاون حديثة، زاعمين أنها وصلت ضمن شحنة جديدة. فريق فرانس 24 قام بتتبع أرقام وأبعاد هذه القذائف، وتأكد من تطابقها مع قذائف من عيار 81 ملم و120 ملم تم تصنيعها في مصنع بلغاري يُعرف باسم Dunarit. رغم أن الحكومة البلغارية نفت منح أي تصريح لتصدير السلاح إلى السودان، إلا أن الفريق الاستقصائي حصل على وثيقتين رسميتين تكشفان أن الوجهة الأصلية للشحنة كانت الجيش الإماراتي

الوثيقة الأولى، مؤرخة في 16 أغسطس 2020، صادرة عن القيادة العامة للقوات المسلحة الإماراتية، وتشير بوضوح إلى استيراد أكثر من 59,000 قذيفة هاون من أعيرة مختلفة، تتضمن 15,000 من عيار 81 ملم، 2,780 من عيار 60 ملم، 30,000 من عيار 82 ملم، و11,464 من عيار 120 ملم. الوثيقة حددت شركة بلغارية تُدعى ARM-BG كمورّد، وشركة  International Golden Group PJSC كمستورد إماراتي، وهي شركة ترتبط بعلاقة وثيقة مع النظام الإماراتي وتعمل كمزود رئيسي للجيش ووزارة الداخلية في الدولة كمستورد إماراتي، أما المصنع Dunarit لم يُذكر بالاسم، لكن التحقيق أكد أن القذائف المُصورة والمُستخدمة في السودان تتطابق مع منتجاته.

Image

الوثيقة الثانية، وهي شهادة المستخدم النهائي الصادرة عن الجيش الإماراتي في أكتوبر 2019، تعهدت بعدم إعادة تصدير هذه القذائف لأي طرف ثالث دون موافقة السلطات البلغارية. غير أن الشهادة نفسها تشير إلى كمية أكبر بكثير – 105,000 قذيفة – ما يثير تساؤلات حول النوايا الحقيقية للنظام الإماراتي من وراء الصفقة.

الخبير نيكولاس مارش من معهد أبحاث السلام في أوسلو، أوضح أن هذه الثغرة تُستخدم في كثير من الأحيان لتمكين الجهات المستلمة من طلب شحنات لاحقة دون إصدار تراخيص جديدة، لكن الفرق بين الكميتين – أكثر من 45 ألف قذيفة – يطرح علامات استفهام جدية حول ما إذا كانت هذه الذخائر قد تم تسريبها عمدًا إلى جهة ثالثة.

Image

من جانبه، أوضح الرئيس التنفيذي لشركة Dunarit، بطرس بيتروف، بحسب التحقيق، أن شركته تصدّر فقط بموجب تراخيص رسمية، وأن السلطات الإماراتية لم تُخطرهم بأي عملية إعادة تصدير، وأن القانون يفرض على المستخدم النهائي إبلاغ جميع الأطراف بأي تغيير في مسار الاستخدام أو الجهة النهائية للذخيرة، وهو ما لم يحصل في هذه الحالة، مما يعني أن الذخيرة خرجت من الإمارات إلى السودان دون علم المصنع أو الحكومة البلغارية، أو بتواطؤ منها.

لكن القضية لا تقف عند هذا الحد، فالشركة الإماراتية المستوردة – International Golden Group – ليست جهة مجهولة أو جديدة في هذا النوع من العمليات، بل لديها سجل طويل من انتهاك قرارات الحظر الأممية، حيث ورد اسمها في عدة تقارير رسمية صادرة عن لجنة خبراء الأمم المتحدة بشأن ليبيا، وأُشير إليها كطرف فاعل في تهريب الذخيرة إلى بنغازي في عام 2013، ثم في عامي 2016 و2022، حيث تورّطت في تسليم قذائف مورتر صربية لقوات خليفة حفتر، إحداها استُخدمت لاحقًا لتفخيخ منزل مدني في طرابلس، في واحدة من أكثر الحوادث دموية وتوثيقًا. كل هذه العمليات كانت تتم تحت غطاء رسمي إماراتي، حيث تُسجَّل الإمارات كجهة مستلمة، ثم تُغيَّر وجهة الشحنات في اللحظات الأخيرة لتصل إلى مناطق نزاع محظورة بموجب قرارات مجلس الأمن.

Image

ورغم هذا السجل المثقل بالانتهاكات، استمرت بلغاريا في تصدير السلاح إلى الإمارات، بل إن صادراتها من الأسلحة إلى أبو ظبي قفزت في عام 2019 إلى 83 مليون يورو، بعد أن كانت تتراوح بين 10 و30 مليونًا فقط في الأعوام السابقة، ما يعزز فرضية أن صفقة قذائف الهاون شكّلت الجزء الأكبر من هذا الرقم، ويؤكد أن بلغاريا لم تكن جاهلة بتاريخ الشركة الإماراتية، بل اختارت أن تتجاهله.

أما الوسيط البلغاري في الصفقة، شركة ARM-BG، فهي شركة شبه وهمية، لا يزيد عدد موظفيها عن أربعة، وتحققت أرباحها الكبرى في العامين اللذين جرت فيهما الصفقة، حيث ارتفعت إيراداتها إلى 78 مليون دولار عام 2019، ثم إلى 106 ملايين في 2020، قبل أن تنهار فجأة إلى 6 ملايين في 2021، وتسجل عجزًا يقدر بـ3.5 ملايين دولار. الشركة تزعم أنها مجرد وسيط، لا تصدّر ولا تستورد، ولكنها مُدرجة رسميًا في وثائق الصفقة كمصدّر مباشر، وهو ما يتناقض مع أقوالها ويؤكد أنها كانت طرفًا فعليًا في العملية.

ومع أن اللجنة البلغارية للرقابة على الصادرات نفت وجود أدلة على تورّط الشركة في إعادة التصدير، فإنها امتنعت عن الرد على تساؤلات حول علمها المسبق بسجل شركة IGG الإماراتية، كما أنها لم تُقدّم أي تفسير لاختفاء آلاف القذائف أو ظهورها المفاجئ في السودان.

Image

في الصفقة الخاصة بالسودان، قفزت صادرات بلغاريا من الأسلحة إلى الإمارات إلى 83 مليون يورو في عام 2019، وهو رقم يفوق بمرتين إلى ثلاث معدلات السنوات السابقة. هذا يعزز فرضية أن صفقة القذائف شكّلت الجزء الأكبر من هذه القيمة، ويضع المسؤولية المباشرة على النظام الإماراتي في تحويل هذه الأسلحة لاحقًا إلى السودان، تحديدًا إلى ميليشيا الدعم السريع.

في تتبع قافلة الشحن الأخيرة، تمكّن فريق التحقيق من التعرف على أحد أفرادها من خلال جواز سفر كولومبي ظهر في الفيديو المصور في السودان، ما يؤكد أن عمليات النقل تمت عبر سلسلة دولية مدروسة، وليس عن طريق «تهريب فردي» أو عمليات خارجة عن سيطرة الدولة.

ضع هذا التحقيق النظام الإماراتي مجددًا في قلب فضيحة تسليح كبرى، ويكشف دوره في تمويل ميليشيات متورطة في ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية، متجاوزًا كل المعايير القانونية والأخلاقية، وبمساعدة أوروبية فاضحة عبر تراخيص شكلية وشركات واجهة، ليؤكد مرة أخرى أن أبو ظبي ليست فقط راعية للتطبيع والتقنيات، بل هي أيضًا راعية للحروب والمجازر والدماء في العالم العربي.