في موقف يجسّد غطرسة القوة والاستخفاف بالقانون الدولي، صرّح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من البيت الأبيض، وهو يقف إلى جوار نظيره الجنوب إفريقي سيريل رامافوسا، قائلًا: “لا أتوقّع أي نتيجة” من الدعوى القضائية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد “إسرائيل” أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب إبادة جماعية في غزة. 

ورغم أن هذا التصريح لا يثير الاستغراب في ظل تاريخ الولايات المتحدة الطويل في دعمها غير المشروط للاحتلال الإسرائيلي، إلا أنه يعيد تسليط الضوء على حجم النفاق الدولي، وتواطؤ العديد من الأنظمة، خاصة العربية، التي اختارت الصمت أو التطبيع، بينما تحاول دولة إفريقية، كانت ضحية للفصل العنصري، أن تحرك ضمير العالم.

جنوب إفريقيا.. ضمير العالم في لاهاي

عندما قررت جنوب إفريقيا أن ترفع قضية ضد الاحتلال الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية، كانت تعلم أن الطريق محفوف بالتحديات، لكنها فعلت ذلك من موقع أخلاقي عميق، مستندة إلى تجربتها التاريخية ضد الأبارتهايد، وإيمانها بأن “الظلم في أي مكان هو تهديد للعدالة في كل مكان”. 

ففي ملف مكوّن من 84 صفحة، وثّقت بريتوريا الجرائم المروّعة التي ارتكبتها “إسرائيل” بحق المدنيين في غزة، من قتل وتشويه جماعي، إلى الحصار والتجويع الممنهج، وصولًا إلى تدمير المنازل فوق رؤوس قاطنيها.

هذه القضية ليست رمزية فقط، بل هي اختبار حقيقي لمدى التزام النظام الدولي بمبادئه التي طالما تغنّى بها. 

ولذلك، فإن التصعيد القانوني الذي تقوده جنوب إفريقيا، عبر طلب وقف فوري للعدوان على رفح وسحب قوات الاحتلال من قطاع غزة، يمثل بوصلة أخلاقية وسياسية في زمن تتقاطع فيه المصالح على حساب الدم الفلسطيني.

موقف ترامب.. استمرار التواطؤ الأمريكي

تصريحات ترامب ليست مجرد رأي عابر، بل تعكس سياسة أمريكية راسخة في دعم الاحتلال بكل الوسائل، وعرقلة أي مسعى دولي لمحاسبته. 

فترامب لم يكتفِ بالاستهانة بالقضية القانونية، بل ذهب أبعد من ذلك، عبر توقيع أمر تنفيذي بوقف المساعدات المالية لجنوب إفريقيا، عقابًا لها على جرأتها في مواجهة حليفة واشنطن.

هذا القرار هو رسالة واضحة لكل من تسوّل له نفسه أن يعارض رواية الاحتلال: إن فعلتم، فسوف تدفعون الثمن. 

وهو ما يعيد إلى الأذهان كيف استُخدمت المساعدات الأمريكية عبر التاريخ كسلاح سياسي للضغط على الدول، وفرض الإذعان تحت ستار “الدعم التنموي”.

لكن ترامب ينسى أن جنوب إفريقيا ليست دولة ضعيفة يمكن إخضاعها بسهولة، وأنها تحمل شرعية أخلاقية في دفاعها عن حقوق الإنسان، لن تُكسر بتهديدات مالية. 

بل على العكس، فإن هذا التصعيد الأمريكي يعزز من مصداقية تحرك بريتوريا، ويكشف عن خوف واشنطن من أن تنجح هذه القضية في كسر جدار الحصانة الذي لطالما أحاط بالاحتلال الإسرائيلي.

صمت عربي مخزٍ.. وخيانة القضية

وبينما تقف جنوب إفريقيا في وجه واحدة من أقوى الآلات العسكرية والدبلوماسية في العالم، يغيب الصوت العربي، إلّا من همسات خجولة أو بيانات مكررة، لا تقدم ولا تؤخر.

لقد وصل التواطؤ العربي إلى مستوى غير مسبوق من الانحدار؛ فبعض الدول اختارت التغطية على جرائم الاحتلال بالتطبيع، بل شاركت في تبييض وجهه في المحافل الدولية، تحت ذرائع واهية تتعلق بـ”السلام الإقليمي” و”الاستثمار في المستقبل”.

إن هذا الموقف لا يمثل فقط خيانة للقضية الفلسطينية، بل هو انسلاخ تام عن مسؤولية تاريخية وأخلاقية تجاه شعب يُذبح يوميًا أمام أنظار العالم. 

كيف يُعقل أن تكون دولة مثل جنوب إفريقيا، التي لا تمت للعرب جغرافياً أو قومياً بأي صلة، أكثر انحيازًا إلى الحق الفلسطيني من دول يفترض أنها تتصدر المشهد العربي والإسلامي؟

الصمت العربي ليس موقفًا محايدًا، بل هو مشاركة في الجريمة بصيغة أخرى. فكما أن القاتل يُدان، فإن من يغضّ الطرف عنه يتحمّل المسؤولية الأخلاقية والقانونية.

الجنوب يصحو.. والشرق غارق في سباته

إن ما تقوم به جنوب إفريقيا ليس مجرد مبادرة قانونية، بل هو محاولة لإعادة الاعتبار لفكرة العدالة الدولية في وجه نظام عالمي مشوّه بالكيل بمكيالين.

أما موقف ترامب، فليس جديدًا، لكنه يشكّل تحديًا يجب أن يدفع الشعوب والناشطين إلى مزيد من الضغط والمساءلة.

أما العرب، فعليهم أن يخجلوا من مواقفهم التي تماهت مع الاحتلال وارتضت له الغلبة، حتى على حساب الأطفال والنساء في غزة. لقد أثبتت التجربة أن من يطبع مع الاحتلال، يقطع شريان التضامن من جذوره، ويخسر احترام الشعوب، وإن احتفظ بشعارات جوفاء في بياناته الرسمية.

في زمن يصمت فيه الشرق، يصحو الجنوب ليذكّر العالم أن هناك من لا يزال يؤمن بالعدالة، حتى لو وقف وحده في وجه آلة القتل والتواطؤ الدولي.

اقرأ أيضًا : إصابة بمرض السرطان.. هل أصابت دعوات الأبرياء الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن؟