يبدو أن البيت الأبيض يسعى جاهدًا إلى إعادة صياغة خطابالرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن غزة، بعد أن لقيتتصريحاته الأخيرة حول تهجير الفلسطينيين والسيطرة الأمريكيةعلى القطاع ردود فعل غاضبة.
الإدارة الأمريكية تحاول تجميل الطرح، لكنها لم تتراجع عنه، بلتعيد تقديمه كل يوم بصياغة مختلفة، تحافظ على جوهره، ولكنبتعبيرات أقل صدمة.
خطاب مزدوج.. تهجير دائم أم “مؤقت”؟
اليوم، خرج البيت الأبيض ليعلن أن ترامب “لم يلتزم بعد” بإرسالقوات أمريكية إلى غزة، وأن الولايات المتحدة لن تمول إعادة إعمارالقطاع، لكنها ستتعاون مع شركائها الإقليميين في هذه المهمة. في المقابل، جاء تصريح وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيوليؤكد أن عرض ترامب ما زال قائمًا، لكنه وصفه بأنه “فريد مننوعه وليس خطوة عدائية”، بل إنه بحسب تعبيره، “تدخل لإزالةالحطام وتنظيف المكان من كل الدمار”.
هذه العبارات تحمل دلالات خطيرة، فهي لا تعني سوى شيءواحد: التهجير القسري للمدنيين الفلسطينيين من القطاع، حتىإن تم وصفه بأنه “مؤقت” بحجة إعادة الإعمار.
محاولة لتهيئة الأرض للشركاء الإقليميين؟
من الواضح أن خطاب البيت الأبيض بات أكثر مرونة مقارنةبالتصريحات المباشرة السابقة التي دعا فيها ترامب إلى تفريغغزة بالكامل. هذه اللغة المخففة قد تكون محاولة أمريكية لتهدئةالشركاء الإقليميين، خاصة بعد ورود تقارير تفيد بأن المؤسساتالأمنية والعسكرية في مصر، وعلى رأسها الجيش المصري، أبدترفضها القاطع لأي خطة تهدف إلى تهجير الفلسطينيين إلىسيناء.
القيادة السياسية المصرية، وعلى رأسها عبد الفتاح السيسي، تابعة تمامًا لرغبات واشنطن، ولم يُظهر النظام أي معارضةحقيقية للمقترح الأمريكي، بل يبدو مستعدًا لقبول أي ترتيباتتفرضها الولايات المتحدة. لكن الجيش المصري، رغم تبعيتهالسياسية، لا يزال يمتلك مساحة من الرفض، ويدرك خطورة هذاالمخطط على الأمن القومي المصري. حتى الآن، تبدو المؤسسةالعسكرية غير موافقة، مما يفسر إعادة تقديم المقترح الأمريكيبصياغات أكثر مرونة، حتى يصبح مقبولًا ولو جزئيًا.
النظام السعودي يلهث خلف التطبيع لكنه يحتاج إلى مخرج
على الجانب الآخر، تبدو السعودية في مأزق كبير، فهي تسعىخلف التطبيع مع إسرائيل، لكن دون أن تظهر وكأنها متورطة فيمشروع تهجير الفلسطينيين. النظام السعودي، بقيادة محمد بنسلمان، يريد علاقة مفتوحة مع إسرائيل، لكنه لا يستطيع تحملعبء دعم التهجير العلني، خشية من انعكاسات ذلك على الداخلالسعودي.
لذلك، يبحث النظام السعودي عن مدخل “مناسب” يمكنه منالانخراط في المشروع دون أن يبدو كمتآمر على الفلسطينيين. قديكون هذا المدخل عبر تمويل إعادة إعمار غزة، أو دعم ترتيباتسياسية جديدة تحت غطاء “الاستقرار الإقليمي”، وهو ما تحاولواشنطن توفيره كغطاء دبلوماسي للرياض.
الإمارات.. البديل جاهز إذا فشل التهجير
إذا فشلت خطة تهجير الفلسطينيين، فإن نظام محمد بن زايد فيالإمارات لديه “الخطة البديلة”، وهو ما بدأ يظهر بالفعل من خلالتسريبات حول مساعٍ إماراتية لدفع السلطة الفلسطينية إلى توليإدارة قطاع غزة، ولكن برعاية وإشراف إماراتي كامل.
الإمارات، التي تحولت إلى وكيل إسرائيلي في المنطقة، تستغلالضغط الأمريكي لتقديم نفسها كحل “واقعي”، حيث تقترح أنتتولى السلطة الفلسطينية مسؤولية غزة، لكن تحت إدارة إماراتية، عبر تمويل كامل لكل عمليات إعادة الإعمار، وربما حتى إنشاءقوات أمنية بإشراف إماراتي.
هذا السيناريو، الذي يبدو وكأنه بديل عن التهجير القسري، لايختلف كثيرًا في خطورته، فهو يعني عمليًا تحويل غزة إلىمنطقة تحت الوصاية الإماراتية، أي بيد نظام متحالف معإسرائيل، ينفذ سياساتها في المنطقة، ويقمع أي مقاومة أوتحركات لا ترضى عنها تل أبيب وواشنطن.
لماذا يتم إعادة تقديم الطرح كل يوم بصيغة جديدة؟
منذ إعلان ترامب عن فكرته بفرض السيطرة الأمريكية على غزة، خرجت الإدارة الأمريكية يوميًا بتصريحات توضح وتعدل وتبرر، لكنها لم تتراجع عن الفكرة نفسها. لماذا هذه المناورة الإعلاميةاليومية؟
هناك عدة احتمالات:
1️⃣ تهيئة الفلسطينيين تدريجيًا:
يعتقد ترامب أنه بعقلية التاجر قد ينجح في تسويق الفكرةللفلسطينيين بصورة مختلفة دون أن يفرض الاحتلال الأمريكيالمباشر على غزة. لذا، يتم طرح الفكرة في البداية بصيغةصادمة، ثم يتم إعادة صياغتها لاحقًا بعبارات أكثر “نعومة”، لإضعاف ردود الفعل الرافضة تدريجيًا.
2️⃣ تقديم مخرج لحلفاء أمريكا في المنطقة:
أنظمة مصر والأردن والسعودية تجد نفسها في موقف محرج، فهي لا تستطيع دعم تهجير الفلسطينيين علنًا، لكنها تتعرضلضغوط أمريكية وإسرائيلية للموافقة. لذا، يتم الآن طرح الفكرةعلى أنها “مؤقتة” و”جزء من إعادة الإعمار”، مما يتيح لهذهالدول التعامل معها دون أن تواجه غضبًا شعبيًا مباشرًا.
3️⃣ اختبار مواقف الدول الإقليمية والأطراف الفاعلة:
الإدارة الأمريكية ربما تحاول قياس مدى صلابة الرفض الشعبيالمصري والأردني لهذه الخطة. إذا وجدت أن هناك ضعف في ردالفعل، فقد تدفع بالمقترح خطوة أخرى إلى الأمام. وإذا واجهتموقفًا صارمًا، فستواصل محاولاتها للالتفاف حول هذا الرفض.
السيناريو القادم: ما الذي قد يحدث؟
الولايات المتحدة لن تتراجع عن هذه الخطة بسهولة، لكن الأهم هو: هل ستجد من يقبل بها؟
التجارب السابقة تقول أن الرهان على الأنظمة العربية المجاورةهو رهان خاسر، فالإرادة العربية أمام الإرادة الأمريكية هي فيأضعف حالاتها، وترامب قادر على إجبار تلك الأنظمة على مايريد.
لكن نقطة الضوء أنه وعلى مدار 15 شهرا وقف قطاع غزة وحدهأمام أعنف آلة قتل في العالم الجيش الاسرائيلي بدعم أمريكيكامل وصمت عربي وعاملي مطلق، وفشلت أهداف الحرب وبقىالفلسطينيون في غزة لم يغادروا، وقد أثبتوا أنهم عصيون علىالتهجير.
في النهاية، مشروع ترامب هو نسخة جديدة من مشاريع قديمةفشلت جميعها. لكن ما يجعله أكثر خطورة أنه يأتي في ظل إدارةأمريكية تعاني من أزمة داخلية، وتسعى بأي شكل لإثبات قوتهافي الشرق الأوسط، حتى لو كان الثمن هو تهجير ملايينالفلسطينيين. فهل تدرك الشعوب العربية حجم التهديد الذيسيطال الجميع ويتحركون قبل فوات الأوان؟
اضف تعليقا