“كل شئ فى داخلي يسوده عدم النظام وتنتابه الحيرة ويرى مبعثراً هنا وهناك”

ميشا سليموفيتش

 

من منّا وصل لمراده دون أن يقع في حيرة من أمره، يختزله نوع من الخجل من جهل ما فلا نحتار إلا فيما نجهلُه، فعندما لا نهتدي للأصوب والأصح فيما أمامنا تصيبُنا الحيرة، ولن ينفك الإنسانُ جاهلاً لأشياء، بل هو في الحقيقة لم يعلم إلا قليلاً، “فما أُوتيتم من العلم إلا قليلاً”، فيبدو ما يعلمه الإنسناُ ككوكبٍ صغيرٍ يضيءُ، معلقٍ، تحيطُ به الظلمات من كل جانب وسطَ مجرّةٍ مهولةٍ معتمة.

إن المعطيات أمام عقل الإنسان قد تنقسمُ إلى ثلاثة أقسام:
ما هو معلومٌ بوضوح، وهذا ما فرغت منه المعرفة، فانقضى أمره..
وما ليس معلوماً ولا مدركاً ألبته، وهذا ما لم تقترب منه المعرفة، ولم تطأ أرضه بعد، فيُعتبرُ –بالنسبة إليها- في حكم العدم الآن..
وما وصلَ إليه العقل لكنه لم يتضح بعد، بمعنى أن المعرفة تجوبُ أرضَهُ ولم تكتسحه بعد، وهذا موضع الحيرة والتساؤل، لأنه منطقة الانتقال من المعلوم إلى المجهول، أي العقل تتبّعَ خيوطَ المعرفة حتى تداخلت واشتبكت، وهي الزوبعةُ التي ضلَّ فيها العقل عن مسيره، فاحتارَ واختلطَ عليه الأمر، واجتهدَ في حلِّ العقد.
إن الحيرة كالنار التي تشتعلُ في قلب قنديل، تبدّدُ الظلام المخيّم، وتنثرُ التساؤلات حولها، فكأنها تزيحُ بذراعها المتقد زحامَ العتمة لتجدَ لها مكاناً مضيئاً، ولا قنديلَ إن خبتَ شعلته، وتوقّفَ عن الاتقاد نبضه، إذ سيصيرُ قطعةً من الظلام، وإن تطاولت ألسنة اللهب في جوفه احترق، وأكل بعضُهُ بعضاً، فانفطرَ صدرُهُ، وابتعله الظلام.

إن الحيرة هي من يدفعُ إلى التساؤل والبحث والتفكير، لأنها مرحلة حلِّ العقد لمتابعة خيوط المعرفة المنسدلة إلى ما لا نهاية، إنه الخيط الممتد مما نعلم إلى ما لا نعلم، لكنها إن زادت عن حدها ؛ سحقت كلَ الإجابات، وحطّمت –بشكلٍ مسبقٍ- كلَ محاولات تحرير الاشتباك والتداخل، فيهلك الإنسان مختنقاً في تلك العقد، فلا يجاوزها.

الخلاصة: الحيرة ضرورية، لكن أن لا تزيد عن الحد، فإن زادت فهو مرض معرفي، وله علاجات، بمعنى أنه –بذاته- قد أصبحَ عقدة، لكنها لا تستعصي على الحل

عموماً إن الحيرة لها مباعثُ كثيرة، ربما ترجعُ كلها إلى الالتباس والتردد، لكن في العموم علينا بالاستخارة والتأمل والصبر. ولنعلمْ أن الزمن جزءٌ من الحل، فاجعلِ الأيام تمضي كما شاءت وسترى، فتغيرُ الظروف والأحوال قد يأتينا بما يزيل حيرتنا أو يخففها.

إن الجميل -والعجيب أيضاً- في الأمر أن الإنسان يشتد ضيقه من الحادثات عندما تقرع عليه سكونه، والحيرة هي وليدة طارئٍ ما، ويتلازمُ معها حالةٌ مؤذية من عدم الاستقرار والقلق، ثم لا تلبث أن نتعايش معها ونتقبلها، حتى يتضائل إحساسنا بها، أي بالحيرة الكاوية، ومع الوقت تبرد عنا فنرتاح، مع أن أسبابها الأولى لم تُحسم أصلاً. ولعلَّ هذا أول الفرج، لأن حيرتنا إما أننا سنوفق لما يزيلها عنا، أو أنها ستخفت من تلقاء نفسها، وفي الحالين فإنها ستهدأُ عنا عاجلاً أم آجلاً.

الآراء الواردة في التدوينة تعبر فقط عن رأي صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “العدسة“.