في خطوة تحمل في طياتها ملامح مشروع استعماري جديد، كشفت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية عن نقاشات داخل دوائر الاحتلال السياسية والأمنية، تهدف إلى تقسيم الضفة الغربية المحتلة إلى أقاليم منفصلة، تبدأ بمدينة الخليل.
هذا المشروع يقوم على تفكيك السلطة الفلسطينية بصيغتها الحالية، وإنشاء إدارات محلية لكل مدينة فلسطينية تتعامل مباشرة مع الاحتلال، الأمر الذي يعني تقويض فكرة الدولة الفلسطينية الموحدة، والعودة إلى سيناريو “روابط القرى” الذي أسقطه الفلسطينيون في ثمانينات القرن الماضي.
لكن هذه المرة، تأتي الخطة بحلة جديدة، مدعومة بغطاء إقليمي تقوده دولة الإمارات، التي لا تكتفي بدعم الاحتلال دبلوماسيًا وإعلاميًا، بل تلعب دورًا خفيًا وخطيرًا في إعادة تشكيل المشهد الفلسطيني بما يخدم مصالح “إسرائيل” ويفرض واقعًا سياسيًا جديدًا على الأرض.
من “روابط القرى” إلى “أقاليم منفصلة”
الخطة الإسرائيلية الجديدة تستند إلى فكرة إعادة تشكيل النظام الإداري في الضفة الغربية، بحيث يتم منح كل مدينة فلسطينية صلاحيات محلية موسعة، بمعزل عن بقية المناطق، مما يؤدي إلى خلق كيانات إدارية منفصلة وضعيفة، تكون رهينة للاحتلال وتتبع له في قضايا الأمن والسياسة والاقتصاد.
ووفقًا لـ”يديعوت أحرونوت”، فإن مدينة الخليل ستكون التجربة الأولى، عبر تشكيل “قيادة محلية” تتولى إدارة شؤون المنطقة، تحت إشراف مباشر من حكومة الاحتلال وجيشه.
هذا النموذج يمثل إعادة إنتاج لمشروع “روابط القرى” الذي طرحه الاحتلال في الثمانينات لتفتيت المجتمع الفلسطيني وربط المناطق المحتلة بالإدارة العسكرية، لكنه فشل بفعل المقاومة الشعبية.
الخطر الحقيقي في هذا المخطط لا يكمن فقط في تفكيك السلطة، بل في خلق حالة من الانفصال الجغرافي والسياسي بين المدن الفلسطينية، ما يُجهض حلم الدولة المستقلة، ويحوّل الضفة إلى جزر متباعدة خاضعة لسلطة الاحتلال، مع انعدام أي شكل من أشكال السيادة أو التواصل الوطني.
ويخشى الفلسطينيون أن تترافق هذه الخطة مع تصعيد في عمليات الاستيطان وفرض سيطرة كاملة على المناطق المصنفة (ج)، في إطار خطة ضم تدريجية مموّهة.
الإمارات.. دور خفي في خدمة الاحتلال
المثير في الأمر أن هذه الخطة لم تنشأ في فراغ، بل جاءت بدعم إماراتي واضح، بحسب التقرير العبري.
فقد ناقش رئيس مجلس المستوطنات في الضفة الغربية، يسرائيل غانتس، خلال زيارته للإمارات، هذا المشروع مع مسؤولين بارزين، على رأسهم علي راشد النعيمي، رئيس لجنة شؤون الدفاع والداخلية والخارجية في المجلس الوطني الاتحادي الإماراتي، وذلك على مأدبة إفطار حضرها رجال أعمال ومؤثرون وسفير الاحتلال في أبو ظبي، يوسي شيللي.
اللقاء – وإن لم يُكشف علنًا عن كامل تفاصيله – إلا أنه يحمل دلالات خطيرة، فهو يؤكد أن الإمارات لا تلعب فقط دور الوسيط، بل تسهم فعليًا في هندسة المشروع.
الصحيفة العبرية أشارت بوضوح إلى أن الإماراتيين هم من بادروا إلى اللقاء، وأبدوا استعدادهم للانخراط في هذا المخطط، لأنهم يدركون ضعف السلطة الفلسطينية، ويعتبرون قادة المستوطنات “قوة صاعدة” في المشهد السياسي الإسرائيلي.
ويكشف هذا التوجه عن خيانة صريحة للقضية الفلسطينية، حيث تسعى الإمارات إلى تمكين المستوطنين من فرض رؤيتهم حول “السلام الاقتصادي” الذي يتجاوز أي حديث عن دولة فلسطينية أو إنهاء الاحتلال.
بل إن الهدف الإماراتي، بحسب المراقبين، هو إقناع بقية الدول العربية بقبول التطبيع مع “إسرائيل” دون شروط، بل على قاعدة الشراكة مع قادة الاستيطان، وتصفية القضية الفلسطينية تدريجيًا.
تطبيع خياني وتمويل لخطط التهجير
الإمارات لم تكتف بدعم الخطة سياسيًا، بل سعت منذ اتفاقات التطبيع (اتفاق إبراهيم) إلى تعميق علاقاتها مع المستوطنين تحديدًا، وليس فقط مع الحكومة الإسرائيلية.
فمنذ فترة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، أقام قادة المستوطنات علاقات تجارية واستثمارية مباشرة مع أبو ظبي، تجاوزًا لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، في مسعى لإظهار أنهم يملكون قناة خاصة نحو الخليج، ما يمنحهم نفوذًا مستقلًا داخل المؤسسة الإسرائيلية.
وتتقاطع هذه التحركات مع دعم إماراتي معلن لـ”صفقة القرن” التي اقترحها ترامب، والتي تضمنت بنودًا تدعو إلى تهجير الفلسطينيين من مناطق واسعة من الضفة وغزة، وإعادة توطينهم في أماكن أخرى مثل سيناء أو الأردن، مع منحهم “حكمًا ذاتيًا” محدودًا بلا سيادة أو عودة.
وتكشف اللقاءات الأخيرة عن توافق صريح بين الإمارات وقادة المستوطنات على إنهاء فكرة الدولة الفلسطينية، واستبدالها بكيانات محلية ضعيفة، مدعومة اقتصاديًا من الخليج، وتابعة أمنيًا لـ”إسرائيل”.
الأخطر من ذلك هو التورط الإماراتي في دعم الاحتلال ماليًا وإعلاميًا وعسكريًا؛ فمن خلال الاستثمارات الضخمة التي يتم ضخها في مشاريع إسرائيلية، ومساندة الرواية الصهيونية في الإعلام العربي، إلى جانب صفقات الأسلحة التي تصب في صالح الكيان، أصبحت الإمارات شريكًا استراتيجيًا في تثبيت الاحتلال وتقويض المشروع الوطني الفلسطيني.
تحالف ضد فلسطين.. فهل من مقاومة؟
تكشف خطة “تفكيك الضفة إلى أقاليم”، التي تبدأ من الخليل، عن تطور خطير في المشروع الاستعماري الإسرائيلي، حيث يترافق مع دعم إقليمي واضح من قبل الإمارات، التي أصبحت تؤدي دورًا وظيفيًا في تصفية القضية الفلسطينية.
وبينما تتحدث بعض العواصم العربية عن دعم “الدولة الفلسطينية”، تُظهر الوقائع أن هناك محورًا خفيًا يعمل على خلق بدائل شكلية لهذه الدولة، على غرار “الإدارة المحلية” و”الحكم الذاتي”، مقابل مزيد من التغلغل الاستيطاني وشرعنة الاحتلال.
في هذا السياق، تبدو السلطة الفلسطينية عاجزة أمام هذا المشروع، فيما تزداد الحاجة الملحة إلى مقاومة شعبية واسعة تعيد توحيد الضفة، وتُسقط هذه الخطط الخبيثة التي تهدد ما تبقى من حلم فلسطيني.
فالصراع لم يعد فقط مع الاحتلال، بل مع أدواته الإقليمية التي تُمعن في خيانة القضية، وتسهم في ترسيخ الاستعمار بثوب عربي.
اقرأ أيضًا : الشراكة الأمريكية – الإماراتية.. دعم للسلام أم تحالف لتعزيز الهيمنة؟
اضف تعليقا