في لحظة مفصلية من مجازر التاريخ المعاصر، وبينما تدخل غزة شهرها التاسع عشر تحت الحصار والقتل والقصف والتجويع، يعود السؤال الجارح الذي ما زال يطفو كل مرة على السطح: هل بقيت غزة وحدها؟

بعد ما بدا أنه بداية تكوّن محور ضغط عسكري رمزي من محور المقاومة، يبدو أن الأمور تعود تدريجيًا إلى نقطة البداية: غزة في مواجهة الآلة الصهيونية وحدها، بأجساد أطفالها، وبقنابل الغاز المنهمرة على الخيام، وبما تبقى من أنفاق وأرواح ومعنويات لا تنكسر.

 

الحوثيون يعلقون النار… والرسالة وصلت

الهدنة التي أعلنت عنها واشنطن والحوثيون بوساطة عمانية، والتي تشمل وقف هجمات الحوثيين على الملاحة الدولية مقابل وقف أميركي للهجمات، ليست خيانة. وليست تراجعًا.

بل على العكس، ما فعله الحوثيون منذ بداية الحرب في غزة كان موقفًا أخلاقيًا نادرًا في زمن عربي رخيص. هاجموا السفن، أعلنوا موقفًا صريحًا، لم ينتظروا تنسيقًا ولا تغطية إقليمية، وواجهوا وحيدين أقوى منظومة استخباراتية وعسكرية بحرية في العالم.

قوة لا تعترف بهم، وجيران يخاصمونهم، وأنظمة تصنفهم إرهابًا، ومع ذلك تقدموا وقالوا: نحن مع غزة.

والآن، وبعد شهور من المواجهة، وبعد تهديدات أميركية وإسرائيلية وعمليات قصف متكررة أصابت أهدافا حيوية، من المنطقي أن تقبل هذه القوة المحدودة استراحة مشروطة تحفظ ماء الوجه وتثبت أن الرسالة وصلت.

ما يفعله الحوثي اليوم، لم تفعله جيوش عربية يفترض أنها تأسست لحماية الأمة، لا لمصافحة القاتل.

حزب الله اللبناني .. رحيل بعد حضور قوي

في الجبهة الشمالية، اختفى صوت حزب الله بعد أن كان قد دخل المعركة بضربات محسوبة كلفته الكثير والكثير، ولا أحد يمكنه أن يطلب من الحزب أن يخوض حربًا شاملة إن لم تكن الظروف مؤاتية.

 فالحزب، رغم كل ما عليه من ملاحظات سياسية في الداخل اللبناني وفي موقفه من سوريا الذي لا خلاف على رفضه بالطبع، خاض الحرب في 2006 وحده، وواجه إسرائيل بشكل مباشر، وكان أول من هزمها في الميدان، واسند غزة بما استطاع حتى لم تعد له قوة ولا طاقة.

اليوم، وقد طال أمد المعركة، وخفت صوت الجبهات، لا يمكن لأحد أن يلوم حزبًا صغيرًا قاتل، بينما هناك أنظمة كاملة بترساناتها العسكرية لم تحرك طلقة واحدة، بل ولم تصدر بيانًا محترمًا.

اللوم لا يوجه لمن قاتل ثم هدأ، بل لمن لم يقاتل أبدًا، ولم يهدأ لأن صمته هو الحرب على غزة.

الجيوش النظامية… وزن بلا معنى، وسلاح بلا كرامة

من بين كل الأنظمة، يبرز النظام الإماراتي كنموذج فج للانفصام الأخلاقي والسياسي. نظام يعانق قادة الاحتلال، يفتح لهم الأرض والسماء والمال، ويصدر بيانات مائعة لا تحمي طفلًا ولا تردع قاتلًا.

النظام الذي قاطع دولًا بأكملها، وحرك مرتزقته في اليمن وليبيا والسودان، وأشعل الحروب، وموّل الانقلابات، لم يفكر للحظة أن يرسل مسيّرة واحدة عبر حليف على غرار ما يفعل في الدول العربية ليربك العدو ولو رمزيًا.

لم نسمع تهديدًا، ولا حتى توبيخًا دبلوماسيًا جادا. بل سمعنا تهنئات متبادلة مع الإسرائيليين بينما أطفال غزة يُنتزعون من تحت الركام.

 

مصر… جيش عظيم في الذاكرة فقط

النظام المصري الذي يحاصر غزة من الشرق، ويغلق معبر رفح أمام الجرحى، بينما يحتضن الاحتلال في قمم اقتصادية وأمنية، لم يعد يخجل من أداء دور الحارس الأمين للحدود مع إسرائيل.

الجيش المصري، الذي صُوّر لسنوات كحامي العروبة، تحول إلى عجوز أخرس لا يحرك ساكنًا، ولا يعبّر حتى عن رفض عملي لما يجري.

أين هي عقيدة الجيش؟ أين هي فكرة الردع؟ أم أن شعار “جيش مصر للمصريين” يعني الصمت على دماء الفلسطينيين؟

المغرب… ثمن الصحراء أغلى من دماء غزة

أما النظام المغربي، فقد ألقى بثقله السياسي في طريق الاعتراف بسيادته على الصحراء، واعتبر أن العلاقة مع إسرائيل ضرورة استراتيجية.

لم نسمع من الرباط غير بيانات تقليدية لا تليق بالمجزرة. لم نرَ استدعاء لسفير، ولا تجميدًا لاتفاقيات، ولا حتى مظاهرة محمية تُعبر عن الشعب المغربي الذي ما زال قلبه ينبض لفلسطين.

الملك الذي يرأس لجنة القدس، يكتفي اليوم بصمت محرج، بينما القدس تحترق من جديد، وغزة تُباد.

من تبقى لغزة؟

هكذا، عاد المشهد العربي إلى حقيقته العارية: غزة وحدها.

لا حليف، لا دولة، لا غطاء. بل حتى من قاتلوا، بدأوا يسحبون أنفسهم واحدًا تلو الآخر، إما باستنزاف أو بصفقة، أو فقط لأنهم لا يستطيعون أكثر.

وهذا مفهوم. فالمعركة قاسية، والعدو قوي، والخذلان العربي لا يُطاق.

لكن، في وسط كل هذا السواد، يظل فعل الحوثي، وفعل حزب الله، رغم كل ما عليهم، موقفًا أخلاقيًا، على الأقل في لحظة كانت فيها كل الأنظمة صامتة أو متواطئة.

اللوم الحقيقي ليس على من وقف مع غزة ثم تعب، بل على من تاجر بغزة، وصافح القاتل، ورقص على الدم، وتآمر على الصمت.

غزة وحدها؟ نعم. لكنها لن تنكسر

للمرة الألف، غزة وحدها. لكن وحدتها أقوى من جيوش العرب مجتمعة.

غزة لا تسقط، لأنها تحارب بكرامة، وتعيش بالمقاومة، وتُربك حسابات العدو وهي محاصرة، جائعة، محطمة.

أما أنظمة العرب؟ فقد انتهت من زمان.

بئس الإخاء، وبئس جيوش لم تعرف معنى الشرف، وبئس العروش التي لا تهتز لمذبحة تحرق أطفالًا ونساء على مرمى أبصارهم دون أن يحرك ذلك فيهم رجولة منعدمة أو ضميرا ميتا.