العدسة – معتز أشرف

تجربة العدالة الانتقالية بعد الثورات تشهد تقدمًا ملفتًا للأنظار في تونس، مع بدء جلسات الدوائر الجنائية بعد جهد مثمن من هيئة الحقيقة والكرامة، نرصد هذه اللحظة التاريخية في تاريخ تونس وكيف تغلبت بلاد بوعزيزي على كثير من المعوقات، لتنتصر لأبرز مطالب ثورات الربيع العربي.

حق “المطماطي”!

انطلقت أول جلسة في تونس من قبل الدوائر الجنائية المتخصصة للنظر في قضايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المرتكبة في الفترة بين 1955 وديسمبر 2013، والتي أرسلت ملفاتها من قبل هيئة الحقيقة والكرامة، والمتعلقة بالجرائم ضد الإنسانية والاختفاء القسري والقتل والتعذيب والعنف الجنسي وانتهاكات أخرى جسيمة لحقوق الإنسان ارتكبتها الأنظمة السابقة على مدى 60 سنة، ووفقًا لقانون العدالة الانتقالية، تطبق هذه الدوائر القواعد والمعايير الدولية لحقوق الإنسان.

وانطلقت الإجراءات بنظر قضية الشهيد كمال المطماطي، أمام الدائرة الجنائية المتخصصة في العدالة الانتقالية بمحافظة قابس (الجنوب الشرقي التونسي)، مسقط رأس الشهيد؛ حيث صنفت قضية المطماطي واحدة من أشنع عمليات التعذيب التي مورست على المعارضة في تونس زمن الرئيس السابق بن علي، فقد تضمنت إضافة إلى التعذيب والاختفاء القسري، القتل العمد ثم إخفاء الجثة والتنكيل بها، والتضييق على عائلة الشهيد طيلة سنوات، دون أن تكون هناك تهم واضحة أو محاكمة عادلة، وتجمع المئات من المواطنين أمام مقر المحكمة بقابس، فيما شهدت الجلسة حضورًا مكثفًا لوسائل الإعلام المحلية منها والأجنبية لمواكبة أول قضية للمحكمة المختصة التي جاءت نتاج ثورة 2011، والتي تؤسس لمفهوم العدالة الانتقالية وتمنع الإفلات من العقاب.

وكانت هيئة الحقيقة والكرامة في تونس، التي أنشئت في بداية يونيه 2014، قد قامت في الأشهر القليلة الماضية بتحويل أول عشرة ملفات إلى الدوائر الجنائية المتخصصة، التي استحدثت أيضًا في العام نفسه في إطار منظومة رائدة للعدالة الانتقالية بعد سقوط حكومة بن علي الاستبدادية في يناير 2011، ومنذ عام 2014 سجلت الهيئة نحو 65 ألف مطلب من ضحية، ربعهم من النساء، وقامت الهيئة بإجراء 49 ألف جلسة استماع فردية و14 جلسة استماع علنية، واعتمدت استراتيجية للملاحقة القضائية تمكنها من تحديد أنماط الانتهاكات وسلاسل الأوامر التي تسمح بحدوث انتهاكات جسيمة وممنهجة، وبحسب الترتيبات التي جرت في تونس تم إحداث 13 دائرة قضائية متخصّصة في العدالة الانتقالية في كل من تونس وسوسة وصفاقس وقابس والقصرين وسيدي بوزيد وبنزرت والكاف وقفصة والقيروان ومدنين والمنستير ونابل.

ومن آخر الملفات المحالة من الهيئة الثلاثاء 29 مايو 2018، هو ملف الضحية عبد الواحد العبيدلي وتم إحالته إلى الدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية بالمحكمة الابتدائية بسوسة، ويتعلق الملف بانتهاكات القتل العمد، والاختفاء القسري، والإيقاف التعسفي وإلقاء القبض على شخص واحتجازه دون إذن قانوني صاحَبه العنف والتهديد وتبعه الموت طبق الفصلين 250 و251 من المجلة الجزائية وإخفاء ما تثبت به الجريمة طبق الفصل 158 من المجلة الجزائية والمشاركة فيها، ووجهت الاتهامات في هذا الملف الذي تعود أطواره إلى سنة 1991، إلى رئيس الجمهورية السابق، ووزير الداخلية زمن الواقعة والمدير العام للأمن وأعوان أمن.

لحظة تاريخية!

بدء جلسات الدوائر المتخصصة وصف دوليًا بالتاريخي، حيث رحب المفوض السامي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة زيد رعد الحسين بانعقاد أول جلسة استماع تعقدها الدائرة الجنائية المتخصصة، وقال زيد: “هذه لحظة تاريخية بحق– بداية حقبة جديدة في مكافحة الإفلات من العقاب في تونس، وأقدم خالص التهاني لحكومة وشعب تونس على الدفع قدمًا لتحقيق ذلك، عندما تعثرت دول أخرى كثيرة على طريق العدالة”.

وأكد أن عملية العدالة الانتقالية في تونس “تشكل مثالًا إيجابيًا للترحيب بالنسبة لبقية العالم بشكل عام، وشمال إفريقيا والشرق الأوسط على وجه الخصوص”، فيما حث الحكومة التونسية على مواصلة الالتزام بهذه العملية واتخاذ جميع الخطوات اللازمة لضمان حق الضحايا في معرفة الحقيقة والعدالة والجبر وضمان عدم تكرارها وفقًا للقواعد والمعايير الدولية.

روضة قرافي، رئيسة جمعية القضاة التونسيين، ثمّنت انطلاق المسار الأهم في رحلة العدالة الانتقالية في تونس، وقالت: “إنّ القضاء التونسي لديه فرصة كي يثبت نزاهته واستقلاليته، وهي خطوة كبيرة لتحقيق الأمن القضائي للمواطن وإثبات أن تونس دولة قانون بامتياز.

وأصدر المكتب التنفيذي لجمعية القضاة التونسيين بيانًا تحدث فيه عن تقييمه للجلسة الأولى المتخصصة في العدالة الانتقالية التي دارت بقابس أعرب فيه عن عميق ارتياحه للأجواء التي دارت فيها تلك الجلسة وما تحلى به رئيسها من حنكة وحرفية في إدارتها وتمكن من إجراءات العدالة الانتقالية وحسن تعامل مع الضحايا والشهود، مؤكدًا أن الجلسة نتاج الدور الذي قام به ائتلاف منظمات المجتمع المدني في الدفاع عن مسار العدالة الانتقالية وضمان استكماله كشفًا للحقيقة وقطعًا مع سياسات الإفلات من العقاب، وضمانًا لعدم تكرار الانتهاكات، وإنصافًا للضحايا، وجبرًا لما لحقهم من أضرار توصلًا إلى مصالحة وطنية شاملة.

شعبيًا كان النجاح مبهجًا لدرجة كبيرة، حيث قال حسين بوشيبة منسق حملة “ملفي آش صار فيه يا هيئة” (ما مصير قضيتي/ مستقلة) في تصريحات: “هذا يوم تاريخي بالنسبة إلى تونس، فلأول مرة يستدعى فيه المتهمون وتنطق أسماؤهم، وهذا اعتراف من الدولة بجسامة أخطائها وانتهاكاتها لحقوق مواطنيها”، مضيفًا أن “هذه الجلسة تعتبر فرصة للقضاء التونسي ليثبت فيه دفاعه على الحقوق والحريات ولتأكيد سلطته المستقلة”.

فشل العراقيل

ونجحت هيئة الحقيقة والكرامة في تخطي العديد من العراقيل أبرزها بعد تصويت البرلمان التونسي في مارس الماضي على عدم تمديد ولاية الهيئة لمدة عام، مما أثار اعتراضات شديدة واحتجاجات من جانب العديد من السياسيين والأكاديميين والمحامين وعامة الشعب، ما أدّى إلى التوصل إلى اتفاق يمكن الهيئة من إكمال مهمتها، بما في ذلك إحالة ملفات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والمتبقية إلى الدوائر الجنائية المتخصصة.

كما تحدث أعضاء الهيئة في الفترات السابقة عن كثرة جلسات الاستماع السرية للضحايا (46 ألف جلسة) والتحريات المطلوبة للتثبت بصحة تلك الملفات، وهو ما عرقل نشاط الهيئة في ظل عدم التعاون من بعض المؤسسات في الدولة؛ حيث لم تكن تعقيدات قضايا الانتهاكات لوحدها السبب المباشر لتأخر عمل هيئة الحقيقة؛ إذ تم وضع العديد من العراقيل عن قصد أمام الهيئة لتعطيل عملها وأبرزها منعها من النفاذ إلى أرشيف وزارة الداخلية وعدم تسهيل عملها إداريًا.

منظمة العفو الدولية رحّبت في وقت سابق بالتزام الحكومة التونسية بتحقيق العدالة الانتقالية من خلال منح هيئة الحقيقة والكرامة الوقت اللازم لتقديم الجناة إلى العدالة، وإتمام عملها مع توخي العناية اللازمة بعد إثارة مخاوف متعلقة بقطع عملها إثر تصويت مجلس نواب الشعب، لكنها شددت بوضوح على أهمية تعاون جميع المؤسسات الحكومية مع هيئة الحقيقة والكرامة حتى استكمال فترة عملها بحلول نهاية عام 2018 حسب قرارها في إشارة إلى العراقيل.