لم يعتقد أشد المراقبين تفاؤلاً، أن ينقلب حال الشعب المصري فجأة من النقيض إلى النقيض، فبعد 7 سنوات عجاف صام فيها أغلب المواطنين عن الكلام، وأصابتهم البهتة والذهول وتجمدوا، وهم يتابعون أطوار الانقلاب على ثورتهم الأولى التي علقوا عليها آمالاً عظيمة خاصة بعد أن انتخبوا رئيسا قلما يجود الدهر بمثل نضاله ونظافة يديه ووطنيته.

بعد المشهد الدرامي الأكبر في الساحة السياسية المصرية، الذي انتهى باستشهاد الرئيس الشرعي والمنتخب ديمقراطياً الدكتور “محمد مرسي”، داخل زنازين القهر العسكري، والتنكيل بجماعة الإخوان المسلمين، وعائلاتهم، ومن له علاقة بهم ولو من بعيد. 

ظن الجميع أن السبات الوطني سيطول هذه المرة، وأن آلة البغي والطغيان أفلحت في قتل الروح المعنوية وكبتت الأمل في التحرر الوطني وأصابت النخوة في مقتل.

غير أن ما حدث منذ أيام قدم درساً، في أن الشعوب لا تنسى حقوقها، حتى وإن تغافلت عنها لفترة تطول أو تقصر، وكان أن اندلعت منذ أسبوع موجة ثانية لثورة جماهيرية تتسع دائرتها كل يوم، ورغم أن التحركات الأخيرة اقتصرت على القرى وخصوصاً على منطقة الصعيد وبعض المناطق المتفرقة والتي يقودها أطياف مختلفة من الشعب المصري الأبي، وتتركز خصوصاً في ساعات المساء.

فإن تطورها إلى مناطق أخرى أكثر كثافة سكانية يتزايد يوماً بعد يوم، كما ينخرط فيها أعداد إضافية، كانت منذ وقت قريب تهادن السيسي أو هي على الأقل تتجاوز عن جرائمه، بدعوى أنها غير معنية بها أو هي تستفيد من غياب الجهة الأقوى على الساحة السياسية.

رغم أن بعض المتابعين للحراك السياسي يشككون في نجاحه، بداعي أنه لا يتوفر إلى حد الآن من يتزعمه أو يوجهه، فإن هناك رأياً آخر يؤكد أن هذه النقطة بالذات هي أحد أسباب قوته، إذ لم يستطع “عبد الفتاح السيسي”، إيجاد عدو يوجه إليه آلته العسكرية الغاشمة ويتهمها بالإرهاب، أو العمالة، أو الفساد المالي، أو التخابر مع أطراف خارجية، إذ أن أغلب من انخرطوا في هذه التحركات، لم يكونوا سوى عامة الشعب من الفقراء والمسحوقين الذي خربت بيوتهم، وشردوا في الشوارع، ولم يعد لديهم ما يسد الرمق فاستوت عندهم الحياة بالموت، كما لم يجد قادة الانقلاب الدعم  الخارجي الذي وجدوه سابقاً، بحكم الأوضاع الاقتصادية الصعبة، التي باتت تشكل هماً هائلاً لديها بسبب الإرباك الذي أحدثته جائحة الكورونا عالمياً.

في الحقيقة لم تكن الاحتجاجات الجديدة مفاجئة، بالنظر إلى الفظاعات التي ارتكبها النظام الانقلابي، وبلغت حد التنكيل بأعوانه، وأصدقائه، ممن انخرطوا معه في مؤامرة الإطاحة بالحكومة الشرعية، وتدمير كل شيء فقط لإرضاء حفنة من اللصوص والخونة وبائعي الضمير والوطن إلى من يدفع أكثر.

ثم جاء الدور على عموم الشعب المسكين، الذي ولئن تحمل وزر الصمت على الجريمة، فإنه لم يكن له حول ولا قوة أمام آلة القتل والدمار الهائلة، وأمام تواطئ العملاء العرب من دول الإمارات العربية والسعودية خدم إسرائيل الأوفياء.

وزاد الطين بلة، تفاقم جائحة الكورونا، التي عرّت الحقيقة وأظهرت عجزاً فادحاً في القدرات الطبية، والاقتصادية، وجعلت الطبقات الشعبية الضعيفة في مواجهة الموت دون أي مساعدة أو تدخل من الدولة، ثم بلغ الأمر مداه عندما شرع النظام الانقلابي في مصادرة أراضي المصريين وهدم منازلهم، وتحويلها إلى مشاريع لصالح منظومة النهب الجديدة. 

الغريب، أن النظام الانقلابي لم يفهم بعد أن إسكات الشعوب لا يمكن أن يصل إلى ما لا نهاية وأنه يتوجب عليه إذا أراد الخروج من المأزق الذي وضع نفسه فيه، أن يستجيب لبعض التطلعات ويقوم بمراجعة جذرية، أو على الأقل، تكتيكية تهدئ الخواطر وتبعث الأمل بل على العكس تماماً، ما زال يقوم بنفس الحماقات ويدهس حقوق فئات كثيرة ومتعددة من المواطنين ويجمع مواقف كل المتضادين، ويؤلفهم ضده، ويلجأ إلى  حلول الاستبداد المتمثلة في القمع الدموي، واعتقال المتظاهرين، والتنكيل بهم،  في غير إدراك أن ذلك هو الوقود المساهم  في تأجيج الثورات على مر الأزمان.

الموجة الجديدة للثورة، تبدو مبشرة بقرب إسقاط الطاغية وإعادة تصحيح التاريخ، بعد أن انحرف أشرار الداخل والخارج بتطلعات شعب الكنانة الأبي، الذي لا يستحق كل هذا الحقد والعذاب، وأنه قد آن الأوان له أن يسترد زمام المبادرة ويبعث برسالة عظيمة إلى طغاة العالم بأن عمر الظالمين قصير.