العدسة – ربى الطاهر

هي الطفلة ذات الـ10 سنوات، التي مثلها مثل أطفال كُثر في مصر، يبيعون المناديل لمساعدة  أسرهم للحصول على قوت يومهم، خرجت كعادتها صباحًا تحمل المناديل التي ستبيعها اليوم.. استعدت لارتداء ملابسها البالية، ولكنها تذكرت أنه يوم الجمعة، فقررت ارتداء “الإسدال” لأداء الصلاة في المسجد قبل بدء يوم العمل.

انتهت من الصلاة، وخرجت لأداء مهمتها، فوجدت تجمعًا كبيرًا أمام حديقة “درة النيل”، واعتبرتها فرصة للانتهاء من يوم عملها مبكرًا وبيع كل ما معها من مناديل، انطلقت إلى هناك ليمر إلى مسامعها أن هناك مسابقة جري للكبار تليها مسابقة أخرى للأطفال.

وهنا داعبتها مشاعر الطفولة ورغبتها في مشاركة هؤلاء الأطفال الجري، والاستمتاع ببعض اللهو مع من هم في مثل عمرها، ولكن للأسف المشاركة ليست مجانية، فنهاك رسوم مادية لكي تشارك، فذهبت إلى أحد منظمي الماراثون وقالت له: “يا عمو أنا باعرف اجري كويس وعايزة اشترك معاهم في السباق”.

وهنا لعب الحظ معها لعبته، بعد أن وافق منظمو الماراثون على مشاركتها، كنوع من أنواع الدعم النفسي لتلك الفتاة، التي ربما لم تلهو قط، وتفتحت ذاكرتها على علبة المناديل التي عليها أن تبيعها حتى تتمكن من الجلوس على طاولة الطعام آخر اليوم مع أسرتها لتناول ما يسد رمقهم.

لم تسعها الفرحة بالمشاركة التي جعلتها لا تعير اهتماما لما يرتديه هؤلاء الأطفال من ملابس رياضية وأحذية تساعدهم على الجري، ووقفت معهم على خط البداية لتخلع “الشبشب” وترفع الإسدال وتفتح لطفولتها أول نافذة  لتنطلق منها كل أحلامها البسيطة، والتي ربما لا تسمح لها الظروف بتكرار ذلك مرة أخرى، لذا.. فقد وقفت على خط البداية وفقط انطلقت.

ليس أقل من المركز الأول

إنها “مروة” تلميذة بالصف الخامس الابتدائي، بنت صعيد مصر، التي تساعد والدها ماسح الأحذية، التي احتلت قصتها صفحات “الفيس بوك”، الأسبوع الماضي، بعد أن حصلت على المركز الأول في ماراثون الأطفال الذي نظمه مركز مجدي يعقوب لأمراض القلب في أسوان، لدعم السياحة بتلك المحافظة التي تقع بأقصى جنوب مصر، وتعاني منذ انقطاع أهم مصدر رزق لجميع أهلها “السياحة”.

وعقب انتهاء ماراثون الكبار، الذي نظم لمسافة 42 كيلومترًا، صباح يوم الجمعة السابق، تم الإعداد لماراثون الصغار لمسافة كيلو، لتحدث المفاجأة، وتحصد “مروة” المركز الأول في الماراثون دون ملابس رياضية أو حذاء رياضي أو حتى غير رياضي، وتحصل كذلك على المركز الأول في صداقة كل المشاركين التي سعد بها الجميع.

وكيف لا؟!.. لقد تفوقت “مروة” في الركض الذي تمارسه يوميًّا واعتادت عليه وراء الزبائن حتى تحصل على ثمن علبة مناديل، لقد انتصرت للفقر الذي جعلها تمتلك العزيمة للحصول على مسعاها.

وتقرب إليها أصدقاؤها الجدد، الذين كانت تنتظرهم منذ الصباح وتقضي معهم ساعات طويلة بعد أن تنهي عملها، والذين أحبوا فيها ذكاءها وعفة نفسها، ورغم فقرها لم تتنازل عن اعتزازها بنفسها، فكانت ترفض وبحسم أن يدفع لها أحد منهم ثمن ما تتناوله من مشروبات أو أن تأخذ من أحد أي أموال كمساعدة؛ فهي قادرة على العمل ودفع ثمن ما تريد شراءه.

وقد قام واحد من أصدقائها الجدد – يدعى مروان علاء الدين، والذي كان مشاركا في الماراثون، وشهد تفاصيل ما حدث منذ البداية- بنشر صورتها على صفحته الخاصة على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”، والتي انتقلت منها بشكل سريع جدًّا ومكثف، لتروج حكايتها على العديد من الصفحات الأخرى، ويتفاعل مع الطفلة الصعيدية السمراء جمهور مواقع التواصل الاجتماعي، على مستويات محافظات مصر كلها.

لقد أثارت صورة الطفلة حافية القدمين في ذلك السباق الخيري إعجاب كل من شاهدها بتلك الضحكة البريئة بعد فوزها، ودفعتهم لمطالبة وزارة الشباب والرياضة، أو حتى رجال الأعمال بأن يتبنوا تلك الفتاة بالصف الخامس الابتدائي المكافحة، ربما تصبح يوما مشروعًا لبطل أولمبي في ألعاب القوى.

التحدى للوصول للهدف

وربما لابد أن يشعر الكثيرون بالخزي أمام كفاح وعزيمة هذه الطفلة، التي تسكن في منزل من منازل الفقراء يفتقر لوجود الكثير من الأساسيات التي يحتاجها أي منزل بمنطقة خور المحمودية بأسوان في جنوب مصر، دون ضجر أو تخاذل، لقد قررت أن تقاوم وتقتنص الفرص التي تجعلها أسعد.

وقد روت “مروة” ما مرت به لتشارك بهذا السباق منذ بداية سؤالها لأحد المسؤولين عن سبب هذا التجمع أمام الحديقة، والذي أجابها بما لم تفهمه “ماراثون للجري”، فسألته ببراءة “يعني إيه ماراثون؟” فأجابها: مسابقة للجري بين الأطفال.

وتكمل بنفس براءتها وبساطتها موقفا يثير الكثير من التعاطف والغضب في آن واحد، عندما قالت إنها كانت جائعة، قبل أن تطلب المشاركة بالسباق، فقد خرجت من منزلها مبكرًا وظلت تلف في شوارع المدينة، لتنتهي من بيع المناديل (حصتها اليومية)، وتناست كما اعتادت الشعور بالجوع حتى عودتها للمنزل، ولكنها عندما علمت بأمر المسابقة وأرادت المشاركة فيها طغت رغبتها في الاستمتاع واللهو على ذلك الشعور بالجوع، لقد أرادت أن تخلق لنفسها لحظات من السعادة لا ينغص عليها فيها ذلك الشعور اللعين، الذي طالما داهمها في الكثير من الأوقات ولا تستطيع هي مواجهته سوى بالصبر عليه، ولكنه لم يسمح لها باقتناص تلك اللحظات فقد شعرت بالإعياء أثناء الجري لأنها لم تستطع منع هذا الشعور بالتسلل لها، إنها جائعة، ولكنها قررت التماسك والمقاومة حتى تفوز بالسباق، كما وعدت كل من ساعدوها من المسئولين على المشاركة بالماراثون.

وقالت إنها ظلت تسيطر على هذا الشعور بالجوع حتى بعد انتهاء السباق الذي أعلن فوزها، حتى رجعت إلى منزلها لتتناول ما أعد لها من طعام، وهي سعيدة ممتنة لكل من شجعها وتعامل معها بإنسانية، فلم يطالبها أحد بدفع الرسوم التي كانت مفروضة على المشاركين، أو حتى أوراقا للتقديم في المسابقة ليساعدوها على أن تشارك بالسباق وتخطف تلك اللحظات السعيدة  التي لا تقدر بمال في ذلك اليوم.

وقد كانت الجائزة التي حصلت عليها عظيمة، فبخلاف الميدالية والمضرب وكذلك الرحلة النيلية في اليوم التالي، حصلت على تشجيع وتقدير منحها المزيد من السعادة التي كانت تطمح لها.

إرادة حديدية

وتطمح “مروة” بعزيمتها وقوة احتمالها لأن تصبح  في يومٍ ما طبيبة تحمل الألم عن الفقراء وتعالجهم مجانا، مثلما تجتهد أن تحمل العبء عن أسرتها من خلال عملها ببيع المناديل وادخار تلك الجنيهات التي ربما تسهم في سد أبسط الاحتياجات عنهم، فكل أمنياتها الحالية أن تريح والدها المريض الذي يكد هو الآخر في عمله لينفق عليهم.

أما والد “مروة” الذي كان يعمل “مراكبيًّا” بإحدى تلك البواخر الصغيرة على شاطئ النيل، أثناء ازدهار السياحة، والتي اختلف وضعها كثيرا بعد ثورة 25 يناير، فتحول إلى سائق “توتوك” تارة، وماسح للأحذية تارة أخرى، وعامل بناء تارة ثالثة، في محاولة للتحايل على الرزق للإنفاق على أسرته المكونة من خمسة أطفال، منهم “مروة” التي تسعي للتخفيف عنه ومشاركته بتحمل المسئولية وبيع المناديل للتكفل معه بمصاريف الأسرة.

وشهد لابنته -التي تنازلت برغبتها عن الاستمتاع بطفولتها رغبة منها في حمل العبء عنه ومساعدته- بأنها قوية، تتمتع بإرادة حديدية، ولديها من العزيمة والإصرار ما يسمح لها بتحقيق أهدافها، وهو ما جعلها متميزة ومحبوبة بين جيرانها الذين يحاولون مساعدتها لتكمل مشوارها بنفس التحدي والإصرار.