في مهرجان “كان”، حيث تعانق السينما ذروة الإبداع، كان هذا العام للواقع كلمته، وللغياب حضوره الطاغي. لم يكن التصفيق احتفاءً بفيلمٍ عظيم وحسب، بل وقوفًا لجنازة رمزية لعدسةٍ لم تَخَف، وكاميرا واجهت الموت لتُخلِّد الحياة.
الشهيدة الصحفية الفلسطينية فاطمة حسونة، التي ارتقت في غارة إسرائيلية استهدفت منزلها في غزة، حضرت إلى “كان” لا بجسدها، بل بذكراها المضيئة، وصوتها الذي صُوِّر فلم يُكتم. فقد اختار المهرجان واحدًا من أصدق أعماله هذا العام ليكون تحية لها: “ضع روحك على كفك وسر”، وثائقيٌّ أخرجته سبيدة فارسي، وضمّ يوميات فاطمة، صوتًا وصورةً، بكرامة لا تُنسى.
بينوش تمسح دمعتها.. و”كان” يرفع صور الشهداء
كلمات رئيسة لجنة التحكيم جولييت بينوش لم تكن بروتوكولية:
“كان ينبغي أن تكون هنا بيننا هذا المساء”… جملة واحدة اختصرت المأساة، ورسّخت المكانة الرمزية لفاطمة التي غابت عن مقعدها في المهرجان، لكنها احتلت الشاشات والقلوب.
أما المخرجة فارسي، فرفعت صورتها، وقالت:
“قالت لي ذات مرة: هذا سيمر.. وها هو يمر. هي ليست هنا، لكنها حاضرة.”
وكانت الكلمة أقرب إلى نشيد مقاومةٍ من خطابٍ سينمائي.
غيابٌ أثقل من الحضور
فاطمة لم تكن مجرد مصورة، بل شاهدة على الزمن الفلسطيني المحاصر. كانت تسابق الموت بالكاميرا، توثّق الأمل وسط الأنقاض، وتنتظر زفافها بعد أسبوع. لم تحضر العرض، لكن صورتها كانت البطلة، وعينيها في الشاشة كانتا أقوى من أي مشهد تمثيلي.
مهرجان كان، الذي يتجنب السياسة عادة، كسر تقاليده. في بيانٍ نادر، عبّر عن حزنه العميق لفقدان فاطمة، واعتبر الفيلم تحية فنية لضحايا العنف في المنطقة، ورسالة تقف في وجه النسيان.
الكاميرا كُفنٌ مقاوم.. والذكرى تصادف النكبة
لم يكن التوقيت عابرًا: العرض الأول للفيلم جاء يوم 15 مايو، ذكرى نكبة فلسطين. كانت العدسة الفلسطينية إذًا تروي القصة من جديد، لا من الماضي، بل من الحاضر المشتعل.
قالت فارسي:
“من أرادوا اغتيالها بالصمت، سيواجهون الآن صراخ عدستها. لقد هزمتهم بالصورة، حتى بعد موتها.”
الصورة لا تموت.. والمهرجان يتّسع لفلسطين
رسالة “كان” كانت واضحة: الصورة التي تُوثق الألم، هي أيضًا سلاحٌ يُقاوم التزوير. ومع تكريم فاطمة، يكون المهرجان قد نقل موقفه من الحياد الفني إلى انحيازٍ إنساني، منح فيه العدسة الفلسطينية حقّها في أن تُروى لا كضحية، بل كبطلة حقيقية.
وفي زمن يشتد فيه الصمت على غزة، كان صوت فاطمة، في حضرة الغياب، أعلى من القذائف.
اقرأ أيضا: بيت لاهيا تحت النار.. الاحتلال يوسّع التوغل شمال غزة ويرتكب مجازر مروعة
اضف تعليقا