في مشهد يلخص التناقض الصارخ في السياسة العربية، بدأت اليوم الثلاثاء في العاصمة السعودية الرياض محادثات أميركية روسية تعدّ الأهم حتى الآن بشأن إنهاء الحرب المستمرة منذ ثلاث سنوات في أوكرانيا.

يأتي ذلك في وقت تتجاهل فيه السعودية ومعها معظم الدول العربية المجازر المستمرة في قطاع غزة منذ أكثر من خمسة عشر شهرًا، دون أي تحرك دبلوماسي جاد أو وساطة فاعلة لوقف العدوان الإسرائيلي.

محاولة جديدة لتعزيز النفوذ

أعلنت وزارة الخارجية السعودية أن استضافة المملكة لهذه المحادثات تأتي بتوجيه مباشر من ولي العهد محمد بن سلمان، في إطار ما وصفته بـ”جهودها لتعزيز الأمن والسلام في العالم” لكنها في الأصل تهدف إلى غسل صورة ولي العهد صاحب السجل الحقوقي المذري. 

ويشارك في الاجتماعات وفدان رفيعا المستوى من الجانبين، حيث يترأس الوفد الروسي وزير الخارجية سيرغي لافروف، ويضم أيضًا يوري أوشاكوف، مساعد الرئيس، فيما يترأس الوفد الأميركي وزير الخارجية ماركو روبيو، يرافقه مستشار الأمن القومي مايك والتز، والمبعوث الأميركي الخاص للشرق الأوسط ستيفن ويتكوف.

المحادثات التي تشهدها الرياض تتناول سبل إنهاء النزاع بين روسيا وأوكرانيا، بالإضافة إلى قضايا ثنائية أخرى، أبرزها تخفيف العقوبات الاقتصادية وتعزيز التعاون التجاري بين موسكو وواشنطن. 

ووفقًا لمصادر دبلوماسية، قد تفتح هذه المحادثات الباب أمام قمة محتملة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، في خطوة تعكس تغييرًا جذريًا في السياسة الأميركية مقارنة بإدارة جو بايدن، التي تجنبت أي اتصال رسمي مع موسكو بشأن الحرب.

بين كييف والرياض: وساطة لا تشمل غزة ولا تعني العرب

في الوقت الذي تسعى فيه الرياض لإظهار نفسها كقوة دبلوماسية قادرة على التوسط بين القوى العظمى، أثارت هذه الوساطة تساؤلات حول ازدواجية المعايير في السياسة السعودية والعربية عمومًا. 

فعلى مدار عام، عاني قطاع غزة من الإبادة الجماعية من قبل الاحتلال ما أسفر عن سقوط آلاف الضحايا المدنيين، بينهم نساء وأطفال، دون أي تحرك سعودي مماثل لمحاولة وقف العدوان أو حتى استضافة محادثات لحل الأزمة.

ويزداد هذا التناقض وضوحًا مع تصريح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي استبق المحادثات الأميركية الروسية بالقول إنه لم يُبلَغ بها، وأن أي مفاوضات تُجرى دون مشاركة أوكرانيا هي محادثات غير ذات جدوى.

المصالح الاقتصادية أولًا

وسط هذه التطورات، ألقى رئيس صندوق الثروة السيادي الروسي كيريل دميترييف بثقله في المفاوضات، مشيدًا بترامب باعتباره “حلال المشاكل”، ومؤكدًا أن “الشركات الأميركية خسرت نحو 300 مليار دولار بسبب العقوبات على روسيا”.

هذه التصريحات تعكس أحد الأبعاد الحقيقية لهذه المحادثات، حيث تسعى موسكو وواشنطن، كل منهما بطريقته، إلى إعادة ترتيب المصالح الاقتصادية، فيما تلعب السعودية دور المضيف الذي يسعى لتوسيع نفوذه السياسي والدبلوماسي.

غير أن المحادثات تأتي وسط تحركات أوروبية محمومة لمواجهة المسار الأميركي الجديد، فبعد اتصال هاتفي بين ترامب وبوتين، فوجئ القادة الأوروبيون بهذا التحول، ما دفعهم إلى عقد قمة طارئة في باريس للاتفاق على إستراتيجية موحدة. 

في ختام القمة، أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن بلاده ستواصل دعم أوكرانيا، في حين أشار رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إلى إمكانية إرسال قوات بريطانية إلى أوكرانيا إذا تم التوصل إلى اتفاق سلام دائم.

مفارقة الدور العربي: متى يلتفت العرب إلى أزماتهم؟

تعكس هذه المحادثات في الرياض مثالًا صارخًا على السياسة العربية التي تتجاهل القضايا المصيرية لشعوبها بينما تتطوع لحل أزمات الدول الكبرى.

فالسعودية، التي تنشغل اليوم بترتيب محادثات لإنهاء حرب تبعد عنها آلاف الكيلومترات، لم تبادر بأي وساطة فعلية أو جهد دبلوماسي حقيقي لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة قبل إبرام الهدنة.

ويكاد هذا الموقف يلخص طبيعة العلاقة العربية مع الغرب، إذ يتصرف القادة العرب وكأنهم معنيون بحل أزمات الآخرين بينما يتركون أزماتهم تتفاقم دون تحرك جاد.

وكما يقال: حين يكون الحريق في بيت جارك الملاصق.. تتطوع لإطفاء حريق بعيد في الحي الغربي!

اقرأ أيضًا : المقاومة تعلن الإفراج عن 6 أسرى السبت.. ونائل البرغوثي على أعتاب الحرية