بينما لا تزال مشاهد انتصار الثورة السورية واستعادة العاصمة دمشق حديثة العهد في الذاكرة، جاءت الحملة الأمنية الواسعة التي أطلقتها وزارة الداخلية السورية، الأربعاء، لتؤكد أن معركة “ما بعد الأسد” لم تنتهِ بعد.
فالكشف عن مخابئ متفجرات واعتقال شخصيات أمنية وعسكرية بارزة من عهد النظام المخلوع، وعلى رأسهم ماهر زياد حديد، يعيد للأذهان ما حذّر منه محللون منذ سقوط النظام في ديسمبر الماضي: “الفلول لن تستسلم بسهولة”.
هذه الحملة لا تمثل فقط نجاحًا أمنيًا، بل تكشف عن حجم التحديات التي تواجه الحكومة الجديدة في طريق تثبيت الاستقرار وفرض العدالة الانتقالية.
الضربات الأمنية تتسارع: تفكيك خلايا وتحييد قيادات
أوضحت وزارة الداخلية السورية في بيان رسمي أن الحملة التي نُفّذت في أحياء دمشق القديمة جاءت ضمن خطة أمنية شاملة لتعزيز الاستقرار في العاصمة، التي استعادت المعارضة السورية السيطرة عليها قبل نحو ثلاثة أشهر بعد عقود من حكم القمع والفساد.
وأشارت الوزارة إلى أن الحملة أسفرت عن ضبط عبوات ناسفة وأسلحة وذخائر ووسائل اتصال، كانت مُعدة لتنفيذ عمليات إرهابية في مناطق حيوية من العاصمة، في محاولة واضحة لإعادة الفوضى إلى الشارع السوري.
اللافت أن من بين المعتقلين ماهر زياد حديد، أحد القادة العسكريين في حي التضامن، الذي كان يُعد من أبرز رموز النظام المخلوع في الجنوب الدمشقي.
ووفق البيان الرسمي، فإن حديد متورط بجرائم خطف وقتل وتغييب قسري طالت عشرات المدنيين، ويُعتقد أنه لعب دورًا أساسيًا في مجزرة “حفرة التضامن” التي هزّت ضمير العالم.
ويأتي اعتقاله بعد أيام من إعلان القبض على شادي عادل محفوظ، أحد عناصر المخابرات المسؤولين عن جرائم في منطقة الساحل، ما يشير إلى أن الأجهزة الأمنية تعمل وفق استراتيجية دقيقة تهدف إلى تحييد أبرز رموز الإجرام في النظام السابق، وليس فقط المقاتلين العاديين.
هل تنجح الحكومة في بسط الأمن؟
تُظهر هذه الحملة أن سوريا لم تدخل بعد في مرحلة “ما بعد الصراع” فعليًا، بل في مرحلة “تصفية حسابات أمنية” مع بقايا النظام، التي لا تزال تمتلك شبكات دعم وتحركات ميدانية في بعض المناطق، خاصة في العاصمة ومحيطها.
فالمتفجرات التي ضُبطت، والأسلحة التي كانت معدة للتفجير، لا يمكن أن تكون مبادرات فردية، بل تكشف عن بُنية تنظيمية تسعى لإرباك الدولة الجديدة وتخويف المواطنين من عودة الفوضى.
في هذا السياق، تُدرك الحكومة الانتقالية أن النجاح في القضاء على ما تبقى من “الدولة العميقة” للنظام المخلوع لن يتحقق فقط عبر السلاح، بل من خلال استكمال مسار العدالة الانتقالية، وفتح الملفات السوداء التي تفضح تورط العشرات من ضباط الأمن والمخابرات في جرائم ضد الإنسانية.
ولذلك، فإن تصريحات الداخلية حول “تقديم الموقوفين إلى القضاء المختص” تحمل رسالة سياسية بقدر ما هي قانونية، مفادها أن سوريا الجديدة ماضية نحو محاسبة الجناة لا الانتقام منهم، وأن منطق الدولة المدنية سيحل محل حكم الأجهزة الأمنية والمعتقلات السرية.
ولا يخفى أن هذه الحملة تأتي في ظل تسارع خطوات الحكومة الجديدة في بناء مؤسسات انتقالية حقيقية، كان أبرزها حل حزب البعث، وإلغاء دستور عام 2012، وتعيين أحمد الشرع رئيسًا للمرحلة الانتقالية.
كل هذه التحولات تؤشر إلى نية حقيقية في تأسيس نظام جديد قائم على التعددية السياسية والعدالة، وهو ما يمثل نقيضًا جذريًا للنظام الذي حكم البلاد بقبضة حديدية لعقود.
فلول الأسد والرهان على الفوضى
تحمل الاعتقالات الأخيرة، وما تبعها من كشف لمخططات عنف، دلالة واضحة على أن “فلول الأسد” تراهن على الفوضى كوسيلة وحيدة للعودة إلى المشهد، أو على الأقل لإرباك المرحلة الانتقالية.
غير أن التقدم الأمني السريع، وقدرة الدولة الجديدة على فرض سيطرتها داخل العاصمة، يُعد مؤشرًا قويًا على أن مشروع الثورة لم يكن مجرد تحرك عسكري، بل خطة استراتيجية لإعادة بناء الدولة السورية على أسس العدالة والحرية.
الرهان الآن لم يعد فقط على القبض على المجرمين، بل على خلق منظومة عدلية ومؤسساتية تمنع عودتهم من جديد إلى مفاصل الحكم، وتُطمئن السوريين أن زمن الرعب قد ولى.
وفي ظل التعهدات المعلنة من الحكومة بمتابعة ملف العدالة الانتقالية وتصفية بقايا النظام المخلوع، فإن كل عملية أمنية ناجحة تعني خطوة إضافية نحو سوريا أكثر أمانًا واستقرارًا، وأكثر حرية وعدالة.
اقرأ أيضًا : شهادات من معسكرات الاحتلال: طبيب غزة يُجلد بأسلاك الكهرباء أمام زملائه
اضف تعليقا