بينما استيقظ العالم صباح يوم 11 سبتمبر عام 2001 بتفجير برجَيْ مركز التجارة العالمي، وجدت السعودية نفسها أمام ثمنٍ باهظٍ يجب عليها دفعه إزاء تورُّط 15 شخصًا يحملون جنسية المملكة بالهجمات من أصل 19 إرهابيًا.

منذ هذا التاريخ ظهرت حاجة الرياض المُلِحّة لضمان التأثير في السياسة الأمريكية والحفاظ على مصالحها، وأدركت مدى “العشوائية” في إدارة منظومة الضغط التابعة لها في واشنطن.

ودفع الضغط الواقع السعوديين إلى أول محاولة لتطوير أعمال “اللوبي” من صيغته البدائية، المتمثلة في “دبلوماسية دفتر الشيكات” التي طالما تبناها المسؤولون السعوديون، إلى أول صيغة “مؤسسية منظمة”، عبر توظيف شركات العلاقات العامة للتأثير على صانعي القرار الأمريكي.

وفي هذا الإطار، سجل حساب شركةQorvis Communications LLC للعلاقات العامة، بتاريخ السابع من أغسطس 2002، تلقيه أموالًا من السعودية بلغت 11 مليون دولار نظير عمل لمدة 4 أشهر فقط؛ إذ مثلت هجمات سبتمبر ضربةً قاصمةً لصورة المملكة الذهنية لدى الغربيين عمومًا والأمريكيين خصوصًا.

استمرَّ هذا التصاعد حتى عام 2006 ليستقر معدل الإنفاق السعودي على شركات العلاقات العامة والاستشارات القانونية والدعاية الإعلامية الأمريكية بمعدل ثابت تقريبًا حتى عام 2014.

رشاوى الكونجرس

وبتولي سعود القحطاني (المستشار بالديوان الملكي)، وسلمان الأنصاري (رئيس مجلس العلاقات السعودية الأمريكية- سابراك) شؤون إعادة تنظيم اللوبي السعودي، تزامنًا مع إحلال رجال ابن سلمان محلّ طاقم الحكم السابق بالمملكة، المنتمي إلى عهد الملك الراحل، عبدالله بن عبدالعزيز، اتّجهت المملكة إلى مراجعة التوزيع المالي لشبكة اللوبي حول العالم، وأبدت اهتمامًا متأخرًا بتمويل التأثير المباشر في ساحة السياسة الأمريكية.

من العلاقات العامة إلى رشاوَى انتخابات الكونجرس انتقل نشاط اللوبي السعودي بالولايات المتحدة، ليصعد نجم مكتب هوغان- لوفيز (عملاق المحاماة الدولية القابع في شارع 13 في ميدان كولومبيا بالعاصمة الأمريكية)، بقوة منذ عام 2010.

المكتب هو نتاج اندماج بين اثنين من أشهر مكاتب المحاماة عالميا، هما: مكتب هوغان في واشنطن، ومكتب لوفيلز الواقع في لندن العاصمة البريطانية، وأصبح بعد ذلك أحد أهم مكاتب الضغط التي وظفتها الرياض خلال العقود الأخيرة في واشنطن.

وهنا يظهر اسم “نورم كولمان” كأحد أهم العاملين لصالح المكتب، وهو سيناتور ولاية مينيسوتا الجمهوري حتى عام 2009، ويعرف بأنه “صانع النواب” في الكونجرس.

فبعد أن فقد منصبه البرلماني اتجه إلى مجال الضغط السياسي وهندسة الحملات الانتخابية، حيث قاد مجموعتين وجهتا أموالا كثيفة إلى سباقات الكونجرس منذ عام 2014،هما: شبكة العمل الأمريكية (American Action Network)،وصندوق قيادة الكونجرس (Congressional Leadership Fund).

هذه السمعة دفعت السعوديين إلى مضاعفة نشاطهم مع المكتب بعقد تبلغ قيمته 125 ألف دولار شهريا في يوليو2014.

أما الهدف الحقيقي للعقد فبدا وكأنه صفقة ضمنية، تقوم خلالها مجموعة كولمان بالتركيز بشكل خاص على إقصاء النواب المعارضين لسياسة السعودية من الديمقراطيين من خلال دعم منافسيهم في الحملات الانتخابية، وهي نقطة النجاح الوحيدة التي يمكن تسجيلها للوبي السعودي بعد خسارة الديمقراطيين للانتخابات فيما بعد.

من بين هؤلاء الذين خسروا مقاعدهم بالكونجرس بسبب تعاقدات اللوبي السعودي نائبة ولاية أريزونا، آن كيركباتريك، التي خسرت مقعدها لصالح صقر اليمين الجمهوري الشهير، المقرب من السعودية، جون ماكين، إضافة إلى نائب فلوريدا، جو غارسيا.

مفارقة كولمان

المفارقة هنا تتمثل في أن العمل لصالح السعودية يمثل بالنسبة لكولمان تناقضا مع موقفه كسيناتور قبل عقد من الزمان.

ففي عام 2005، كان كولمان أحد أبرز الموقعين على خطاب في الكونجرس يدين الحكومة السعودية لمسئوليتها عن نشر مطبوعات تروِّج لـ “كراهية اليهود ونشر الأيديولوجية المتطرفة في جميع أنحاء العالم”.

وبقراءة مواقف الرجل يمكن القول بأنه يمثل “عاملًا مشتركًا” الآن بين اللوبي السعودي ونظيره الصهيوني؛ إذ يروج لكون الرياض تحمل أجندة “متصالحة ومتوافقة مع إسرائيل”، في تناغم واضح مع ما أعلنه رئيس “سابراك”، سلمان الأنصاري، في مقال نشره بمجلة ذا هيل.

لكن الخسارات المتوالية للوبي السعودي في عامي 2015 و2016، بتمرير الكونجرس لقانون العدالة ضد رعاة الإرهاب (جاستا)، دفعت ابن سلمان وفريقه إلى زيادة الدعم الموجه إلى مراكز الدراسات والبحوث باعتبارها “خزانات الأفكار” (Think Tanks) التي يتم بثها عبر الفعاليات السياسية ووسائل الإعلام، وبالتالي التأثير في توجيه الرأي العام والناخبين الأمريكيين “من أسفل”، بدلًا من الاقتصار على “شراء  النواب” من أعلى.

خزانات الفكر

فعلى مستوى المراكز البحثية، جاء تدفق الأموال السعودية متأخرا في عام 2014، في وقت كانت معظم المراكز البحثية فيه تعاني من تقليص موازناتها، ليشهد عام 2016 تزايدا غير مسبوق لنشاط اللوبي السعودي، حيث قامت جهات عدة في المملكة بإبرام وتجديد عقود 14 وكالة ضغط على الأقل، أهمها مجموعة “إيلدمان”، وهي أكبر وكالة علاقات عامة في العالم، إضافة إلى ” دي إل ايه بايبر” التي توظف جيشا من المسؤولين الحكوميين السابقين، بما في ذلك رجال الكونجرس المتقاعدين.

ويقوم اللوبي بتمويل عدد من مراكز الأبحاث والمؤسسات في الولايات المتحدة، مثل: معهد الشرق الأوسط، ومجلس سياسة الشرق الأوسط، ومؤسسة بيل وهيلاري وتشيلسي كلينتون.

كما دعم اللوبي “المجلس الأطلسي“، وهو مركز أبحاث للدراسات الاستراتيجية يقدم النصح والإرشاد للنواب الأمريكيين، ويضم عدة مؤسسات بحثية متفرعة عنه.

بهاء الحريري

وفي عام 2014 أفردت صحيفة “نيويوركتايمز” مقالة مطولة عن قوّة ونفوذ المال السياسي للوبي السعودي وعلاقته بطريقة عمل مجالس الأبحاث في واشنطن، عبر استعراضها نموذجا لهذه المؤسسات، لكن القصّة لم تلق اهتمامًا من الإعلام العربي آنذاك.

المقالة تناولت نفوذ أموال 50 دولة أجنبيّة على مراكز الأبحاث في مدينة واشنطن، تضمّنت “مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط” كجزءٍ من منظومة “مجلس الأطلسي” المدعوم سعوديًا.

أنشأ المركز “بهاء الحريري”، شقيق زعيم تيار المستقبل في لبنان، سعد الحريري، الذي لم يرض بالتسليم الكلّي بتقدّم سعد عليه في التمثيل السياسي، فحاول حفر مكان حظوة لنفسه عبر التقرّب من الحكومة الأمريكيّة وبالطريق المُعبّدة من الصهاينة.

اختار بهاء “ميشيلدَن” كي تحتلّ أوّل منصب في المركز، وهي المسؤولة السابقة في وزارة الخارجيّة الأمريكيّة (من سنة 1986 حتى 2003)، قبل أن تتركها للعمل  بمعهد وقف كارنيجي.

لكن ميشيل اتخذت مواقف قويّة ضد زعيم الانقلاب العسكري في مصر، عبد الفتاح السيسي،  بما يتناقض مع أجندة الدعم السعودي للمركز، الأمر الذي أزعج بهاء الحريري بشدة، ليتصل برئيس المؤسسة الأم (المجلس الأطلسي)، التي أصدرت فجأة، ودون سابق إنذار، قرارًا بإقصاء ميشيل واستبدلها بالصهيوني العتيق:. فردريكهوف.

 

ومن خلال “هوف” علم بهاء طريقه إلى قلب واشنطن لتسهيل مستقبله السياسي، ليتصاعد نفوذه فيما بعد إلى حد طرح السعوديين لاسمه بديلًا لشقيقه الذي تشير التقارير إلى “إجباره” مؤخرًا على إعلان استقالته من الرياض.

وبخلاف مجلس ومجلة السياسات الخارجية الأمريكية، التي تلقت تمويلًا قدره مليون دولار من الرياض عام 2007، ما سبب إحراجًا كبيرًا لمديرها آنذاك، شاس فريمان، تشمل قائمة المراكز التي تلقت معونات سعودية في السنوات الأخيرة كلًا من: مركز بروكينغز، ومركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، ومعهد الشرق الأوسط، إضافة إلى مركز دول الخليج العربي في واشنطن.

وسائل الإعلام

لكن دعم المال السعودي لتوجيه الفكر في الولايات المتحدة لم يتقصر على مراكز الأبحاث، بل امتد إلى مؤسسات العلاقات العامة المتخصصة في الإعلام، وأبرزها مجموعة “كورفيس” (إمإسإلغروب)، التي قادت جهودا واسعة لضمان تغطية إعلامية منحازة لصالح السفارة السعودية.

وخلال عام 2016، نشرت المجموعة تفنيدات استباقية لمحتوى الـ 28 صفحة الخاصة بعلاقة السعودية بأحداث سبتمبر، ضمن الوثائق التي أفصحت عنها الإدارة الأمريكية مؤخرًا؛ لضمان موازنة التغطية الإعلامية له بوسائل الإعلام المختلفة.

غير أن الدور الأهم الذي قامت به “كورفيس” يتعلق بحرب اليمن، حيث قامت ببث موقع إلكتروني كامل (operationrenewalofhope.com) للترويج للحرب السعودية الإماراتية هناك،وقدمت جهدا كبيرا لإيصال رؤية الرياض وأبوظبي بشأنها للصحفيين.

كما ساعدت “كورفيس” السفارة السعودية في إطلاق موقع “أرابيا ناو”، وهو مركز إلكتروني للأخبار المتعلقة بالمملكة، يقوم ببثّ تغريدات مدفوعة في محيط واشنطن.

يشرف على “أرابيا ناو” شركة تدعى “تارغيتد فيكتوري” تعاقدت معها “كورفيس” لصالح الرياض مقابل مبلغ 40 ألف دولار شهريًا، وهي متخصصة في إدارة محتوى وسائل الإعلام الاجتماعية، وتقدم تحليلًا للبيانات القادمة من مختبرات “زينغال” (منصة التحليلات الشريكة لـ”واشنطن بوست” في سان فرانسيسكو) مقابل 15 ألف دولار شهريًا.

تعاقدت “كورفيس” أيضًا مع شركات أخرى لقياس الرأي العام الأمريكي لصالح السعوديين، بما في ذلك “تولونا أمريكا”، وهي شركة مسح على الإنترنت، إضافة إلى “مجموعة الاتجاهات الأمريكية”، وهي شركة مسح للهواتف أسسها استطلاعي عمل سابقًا لصالح الرئيس الأمريكي الأسبق، بيل كلينتون.

وإزاء بانوراما إعادة تنظيم اللوبي السعودي بالولايات المتحدة يمكن القول بأن “شراء النواب” قد آتى أكله بتبدل الإدارة الأمريكية وصعود اليمين الأمريكي مجددا بأولولية علاقات عسكرية وأمنية مع الرياض، في حين لم يسفر “شراء الأفكار” عن نتائج ملموسة؛ إذ يعتقد 36% فقط من الأمريكيين أن السعودية صديق للولايات المتحدة بحسب استطلاع نشرته صحيفة الإيكونوميست، ما يعني أنّ النتائج التي توصل إليها اللوبي السعودي من أعلى هرم السياسة الأمريكية قائم على أساس هش، سرعان ما سينهار مع عودة انحيازات الناخبين الأمريكيين إلى الوسط مجددًا، حسبما يرى مراقبون.