في مشهد تاريخي طال انتظاره، دخلت سوريا مرحلة جديدة بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، إيذانًا ببدء حقبة العدالة والمحاسبة لواحد من أكثر الأنظمة دموية في المنطقة. 

فمع انهيار الأجهزة الأمنية والعسكرية التي طالما أرعبت السوريين، شرعت الإدارة السورية الجديدة في حملة موسعة لاجتثاث رموز النظام السابق ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات التي ارتُكبت بحق السوريين والفلسطينيين على حد سواء. 

ومنذ انطلاق العملية الأمنية في 26 ديسمبر، تكشف يومًا بعد يوم عن وجوه كانت تشغل مناصب عليا في النظام، لكنها باتت الآن وراء القضبان بتهم تتراوح بين الإبادة الجماعية والفساد وتجارة المخدرات.

العدالة في صيدنايا.. من الجلاد إلى المتهم

يُعد سجن صيدنايا رمزًا للقمع والوحشية في تاريخ سوريا الحديث، وقد تحوّل عقب الثورة إلى مسرح للإعدامات الميدانية والانتهاكات الممنهجة، بحسب شهادات ناجين ومنظمات حقوقية. 

واليوم، تحوّل السجانون فيه إلى متهمين يُساقون للمحاكمة، يتصدرهم محمد كنجو، النائب العام العسكري السابق، الذي وُصف بـ”سفاح صيدنايا”. 

قبضت عليه قوى الأمن بعد اشتباكات دامية قُتل فيها 14 عنصرًا من القوات الجديدة، بينما كان يتحصن في قريته بريف طرطوس.

كنجو، الحاصل على شهادة حقوق، استغل موقعه في القضاء العسكري لإصدار آلاف الأحكام بالإعدام والسجن المؤبد بحق معتقلين سياسيين ومدنيين، وأشرف على الإعدامات الجماعية في صيدنايا.

وبجانبه، أُلقي القبض على أوس سلوم، السجّان الذي لُقّب بـ”عزرائيل صيدنايا”، والمتهم بارتكاب جرائم تعذيب حتى الموت في حق المعتقلين، فضلًا عن محمد نور الدين شلهوم، مسؤول كاميرات المراقبة في السجن، والمتورط في تعطيل الكاميرات وسرقة ملفات سرية قبل انسحاب النظام.

إضافة إلى ذلك، اعتُقل ساهر النداف، أحد أبرز القادة الميدانيين المسؤولين عن تنفيذ الإعدامات الميدانية في مختلف المناطق السورية، إلى جانب حيان ميا، الذي عُرف بتنفيذ حملات اعتقال ممنهجة بحق المتظاهرين، وكان أحد أدوات الترهيب خلال السنوات الأولى للثورة.

شبكات الميليشيات: تفكيك أذرع القمع والتهريب

لم يكن النظام المخلوع يعتمد فقط على أجهزته الرسمية، بل زرع عشرات المليشيات الطائفية والمسلحة، أبرزها “لواء القدس” الذي شكّل ذراعًا عسكرية وأمنية في مدينة حلب. 

في هذا السياق، أُلقي القبض على فخري درويش، مدير مكتب قائد لواء القدس، ومسؤول العمليات المالية للفصيل الفلسطيني، بالإضافة إلى عدنان السيد، نائب القائد، الذي تورط في انتهاكات بحق الفلسطينيين والسوريين، وفي قضايا فساد وتهريب مساعدات إنسانية.

كما تم توقيف محمد أسعد سلوم، المعروف بـ”أبو جعفر مخابرات”، مسؤول “حاجز المليون” سيئ السمعة في دمشق، والذي اشتهر بابتزازه للمدنيين والتجار وفرض الإتاوات.

أما في ريف دمشق، فقد اعتُقل بشار محفوض، قائد مجموعات الاقتحام في الفرقة 25، الذي استغل انهيار النظام لتشكيل عصابة مارست الخطف والسرقة، إضافة إلى تورطه في جرائم حرب بحق المدنيين.

واستهدفت الحملة أيضًا شبكات المخدرات التي كان يشرف عليها كبار الضباط المرتبطين بماهر الأسد، شقيق الرئيس المخلوع. 

حيث أُلقي القبض على مهند نعمان، أحد كبار مصنّعي الكبتاغون، الذي استخدم سفينة قبالة الساحل السوري كمصنع سرّي للمخدرات، كما اعتُقل العميد عبد الكريم الحمادة، المتهم بإدارة عمليات تهريب مخدرات والتنسيق مع الحرس الثوري الإيراني.

جرائم لا تُنسى: من مجزرة التضامن إلى درعا

من أكثر الملفات المؤلمة التي فتحتها الحكومة الجديدة، ملف مجزرة التضامن التي وقعت عام 2013، وقد فجرت صور مسربة وغضب شعبي بعد مشاهدة فادي صقر، أحد مرتكبي المجزرة، يتجول في الحي دون مساءلة. 

هذا الغضب دفع السلطات إلى تنفيذ حملة توقيفات طالت منذر الجزائري، وسومر وعماد المحمود، وكامل شريف العباس، وشادي محفوظ، وجميعهم متورطون في عمليات قتل جماعي موثقة.

وفي سياق موازٍ، ألقت قوى الأمن القبض على العميد عاطف نجيب، “جلاد أطفال درعا”، الذي أشعل فتيل الثورة حين أمر باعتقال وتعذيب أطفال كتبوا شعارات مناهضة للنظام عام 2011، أبرزهم الشهيد حمزة الخطيب. وقد تم توقيفه متخفيًا في ريف اللاذقية بعد مطاردة استمرت لأسابيع.

أيضًا، شهدت الساحة تطورًا لافتًا حين سلّم محمد الشعار، وزير الداخلية الأسبق، نفسه للسلطات في 4 فبراير/شباط 2025. الشعار، الذي شغل المنصب بين 2011 و2018، هو أحد أعضاء “خلية الأزمة” المسؤولة عن قمع الثورة، ويُتهم بالضلوع في مجازر ضد المدنيين داخل سوريا وفي لبنان خلال خدمته السابقة.

رموز الأسد الأب يعودون من الظل

أحد أبرز وجوه القمع في عهد حافظ الأسد، اللواء إبراهيم حويجة، عاد إلى الواجهة حين أُلقي القبض عليه في 6 مارس/آذار 2025. حويجة، الذي ترأس إدارة المخابرات الجوية في ثمانينيات القرن الماضي، يُتهم بالمشاركة في مجازر حماة 1982، وبتنفيذ اغتيالات سياسية داخل سوريا وخارجها، من بينها اغتيال الزعيم اللبناني كمال جنبلاط. 

وقد ظل حويجة في الظل لعقود قبل أن يُكشف النقاب عن وجوده خلال عمليات تمشيط في جبلة.

كما طالت الاعتقالات اللواء عبد الوهاب عثمان، قائد مطار حماة العسكري، المتهم بقصف مناطق مدنية، من بينها منزل عائلته، في محاولة لإثبات ولائه للنظام. 

ويضاف إلى هذه القائمة سلسلة من الأسماء التي كانت تُعد untouchable لكنها اليوم تحاكم على ما ارتكبته من جرائم بحق السوريين.

بين المحاسبة والمصالحة.. أي طريق تسلكه سوريا؟

الحملة الأمنية التي قادتها الإدارة السورية الجديدة جاءت كجزء من محاولة حقيقية لاستعادة الثقة في مؤسسات الدولة، وتوجيه رسالة مفادها أن زمن الإفلات من العقاب قد ولّى. 

ومع توقيف أكثر من 587 من رموز النظام المخلوع خلال الأسابيع الأولى فقط، باتت هناك فرصة تاريخية لبناء دولة قانون تحقق العدالة وتعيد الاعتبار للضحايا.

لكن التحدي الأكبر لا يزال قائمًا، فبين جراح الماضي واحتياجات المستقبل، على سوريا أن تجد توازنًا دقيقًا بين المحاسبة الشفافة والمصالحة الوطنية، بين اجتثاث رموز الطغيان وفتح صفحة جديدة لا تسمح بعودة الاستبداد تحت أي عباءة.

ولعل الأهم هو أن العدالة لا تكتمل بمجرد إلقاء القبض على الجناة، بل بمحاكمات عادلة تكشف الحقيقة، وتبني ذاكرة وطنية قائمة على الاعتراف لا النكران، وعلى القصاص لا الانتقام. فقط حينها يمكن أن نقول إن سوريا بدأت بالفعل في طي صفحة الظلام نحو مستقبل يُكتب فيه التاريخ بأقلام الأحياء لا بأكفان الضحايا.

اقرأ أيضًا : سوريا تحتفل بالذكرى الـ14 للثورة بعد سقوط الأسد: نضال طويل وانتصار تاريخي